ومن يحرق بشرًا لن يتهاونَ لحظةً في حرقِ الكُتب .
والحرقُ يعني الإلغاء ، ويعني الحذف ، وشطب ما يخالفُ الآمر بالحرقِ ، والمُمارس له .
ونحن كالمغُول تمامًا في حرقِ الكتب ، فلماذا ملأنا كُتب التاريخ بفظائعهم وجرائمهم وحرائقهم ، وأغفلنا جرائمنا نحن العرب والمسلمين – على مدار التاريخ – في حرقِ نحو عشرة ملايين كتاب ؟
أعرفُ أنَّ القراءةَ عن محارقِ الكُتب في التاريخ أمرٌ يحرقُ الدم والرُّوح معًا ، لكن أن تُعاصرَ محرقةً للكتب ، وتكونَ شاهدًا عليها ، ولو من باب التليفزيون أو الصورة أو الفيديو أو قراءة خبر الإحراق لهُو أمرٌ أشدُّ وطأةً ووجعًا على النفس ، إذْ يجعلُ المرء يستعيدُ محارق الكُتب التي شهدتها المُدنُ الإسلامية والعربية وأشهرُها محرقة مكتبة الاسكندرية التي ما تزال أصابعُ الاتهام تشيرُ إلى عمرو بن العاص “51 قبل الهجرة .. 573 مـ – سنة43هـ – 665م ” الذي غزا ” فتح ” مصر ، وكان الحرقُ كما هو شائعٌ ومُتواترٌ في كُتب التاريخ بأمرٍ من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب (13-23هـ/ 634- 644م) ، وطبعًا هناك مصادرُ كثيرةٌ تنفي عن عُمر وعمرُو تُهمة المحرقة.
ومحرقة مكتبات المُوصل وديالا في العراق ، تأتي في السياق التاريخي لهمجية الإنسان أيًّا كان دينه ، داعش ” الإسلام ” أو هُولاكو ” البوذية ” ، ذلك الإنسان الذي يكرهُ المعارفَ والعُلوم .
فرُبَّما لم تسلم مدينةٌ عربيةٌ أو إسلاميةٌ من محارق الكُتب على أيدي خلفاء وأمراء وفقهاء أو تابعين لهُم خُصُوصًا بغداد ، والبصرة ، ودمشق ، وحلب ، وقرطبة ، وأصفهان ، والقاهرة ، وسمرقند ، وبُخارى ، وبلخ ، وهرات ، وخوارزم ،… ومثلما قُتل بشرٌ كثيرون ، قُتلت أيضًا كُتبٌ كثيرة ، وكلاهما من لحم ودم .
إنَّ المُتشدِّدين يتصورُون غلطًا أنَّ الكُتب العقلية تُفسِدُ المُسلمين ، وتزرعُ الفتنة بينهم ، وتبذُرُ الخلافَ بين الفُقهاء ، مُتخذين قاعدة
” لا كتابَ بعد القرآن ” منهجًا وطريقًا للتخلُّص من أيِّ كتابٍ لا يتوافقُ معهم ، ولذا ما أن يُسيطروا على مكانٍ ما حتى يُحرِّمُوا فيه دراسةَ الكيمياء والفيزياء والأحياء والفلك والرياضيات والجُغرافيا وتاريخ الأمم والموسيقى ، ويكتفُون بتدريسِ العُلوم الدينية التي توافقُ مُيولَهُم واتجاهاتهم ، كما أنهم يمنعُون البنات من الدراسة ، لأنه لا يجوزُ في عُرفهم أن تتعلم المرأةُ ، إذْ هي خلقت فقط للإمتاعِ والمُؤانسةِ .
ولقد عرف المسلمون طُرقًا عديدةً للتخلُّص من الكُتبِ ، أشهرُها الحرق ، ثم الإغراق في الماء ” الأنهار والبحار والترع والقنوات الواسعة والآبار ” ، والدفن في باطن الأرض ، والفسخ ، والتمزيق والتخزيق والفسخ والتقطيع والغسل بالماء ، ثم استخدام الصفحات المغسولة مرةً ثانيةً للكتابة فيها من جديدٍ حسبما يوافقُ أفكار ومُعتقدات ورؤى من قام بالغسل .
وكان أوَّلُ وأشهرُ كتابٍ قد تم حرقه في التاريخ الإسلامي هو كتاب ” فضائل الأنصار وأهل المدينة ” ، ربما لأنَّ الكاتبَ شهيرٌ ” سليمان بن عثمان بن عفان ” الخليفة الثالث بعد أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ، كما أنَّ الحارقَ – أيضًا – شهيرٌ هو الخليفة عبد الملك بن مروان (26 هـ – 86 هـ / 646 – 705م) ، إذْ رفض الكتاب وأمر بحرقِه ، حيثُ لا يرى فضلا للأنصار في ” الفُتُوحات الإسلامية ” .
ولا أحد ينسى الناهبين في مصر زمن الخليفة المستنصر بالله 427هـ – 487 هـ – 1036م- 1094م ) ، لمَّا وقع البلاءُ بين سنتيْ 1065 – 1072 ميلادية كانوا يسرقون الكتب ، ويشقون جلودَها الفاخرةَ ويصنعُون منها أحذية أو نعالا خفيفة ، بينما استخدمت الكتب وقودًا للأفران ، وتشير المصادر التاريخية إلى أن رماد الكتب المحروقة قد ” شكَّل رُكامًا عظيمًا سُرعان ما غطَّتْهُ كُثبانُ الرمال ، وقد سميت تلك المنطقة بهضبة الكُتب ، وظلت التسميةُ زمنًا طويلا ، وفي هذا الزمن كانت نساء الخليفة يخرُجن إلى الشارع ليشحذن ، بينما هو جالسٌ في قصره على حصيرةٍ باليةٍ ، لا يمتلكُ حتى قوت يومه .
ولما استولى صلاح الدين الأيوبي ” 532 هـجرية – 1138م – 589 هجرية – 4 من مارس ١١٩٣م ” على السلطة في مصر ، باع المكتبات الفاطمية ، وسدَّد بما حصل عليه من أموال البيع رواتب جنوده ، مُتحجِّجًا أن مصر كانت شيعيةً ، ولا ينبغي أن يبقى في المكتبات أثرٌ أو رائحةٌ للفاطميين ، رغم أنَّ المكتبات كانت تحوي الكثيرَ من العلُوم .وفي زمن الأيوبي كان الفقهاء يستولون على الكُتب ويتلفونها بأيديهم .