وأنا على الشط كنتُ لا أرى إلا قطعان هاربين من براثن سياط لا يراها غيرهم ، وجموعًا قاربت الوداع، فهي تتكئ منذ أول المساء على جدران العجز لا تطيق حراكا، تجلس حيث تسمع خلفها ما تحسبه مجرد هد ير، دونه دويّ برق ورعود على ساحل أي أقيانوس قريب أو بعيد، على هذا الكوكب ، يملأ ما حول الناس من أفضية الفضاء ، ولا ترى مصدره، لا يشغلها إلا ما ترى بين أيديها من ابتسام براعم تتحرك ، وفتنة رقصات أزاهير وهي تحث الخطى تحت الضوء في سعيها نحو احتضان جميع ألوان الحياة.
أنا وحدي، بين كل من أراهم اللحظة، من كانت تملأ جناني وأعماقي البعيدة َ الأصواتُ لا الصورُ،
فجعلت أتأمل الهدير محاولا تفكيكه إلى أصغر الذبذبات فيه،
لأعرف أنه ليس إلا صدى نبضات وهمسات وصيحات وكل ما صدر من هبوب و دبيب عن احتكاك أجسام وهي تسعى منذ بدء الخلق،
صدى لكل كلمات الرضى، وردود فعل الغضب الساطع في كل العصور،
أصداء نداءات ود استغاثات من جلدوا عن غير حق، يوم هوت السياط بلا رحمة على أجسادهم تأكلها كأنها النار.
أصداء دعوات زهاد ناسكين صادقين في صلواتهم ، وبكاء مظلومين في حوادث لم يكونوا يتوقعونها.
هذا الهدير أيضًا كان ارتداد هتافات من كل الناس في مواقف شتى، ممن سقطوا من شاهق ، أم من هووا إلى أعمق الآبار.
بل صدى صراخ كل أطفال الحياة لحظة الميلاد ، وبكاء ثكالى اختطف الموت فلذات أكبادهن، وهم أزاهير من بين أذرعهنّ.
بما يجعل هدير أكبر البحور يتضاءل في أسماعنا أمام تأوه كبد حرى تتقطع. أو اشتعال دمعات تنحدر من مقلة لتحرق خدً أسيلًا.
فما انفجارات الحروب بأعظم الأصوات التي يعكسها هذا الهدير الذي فوجئ هو نفسه بأنه ليس إلا مرآة ، محض مرآة تعكس أصوات انفجارات لا صورا، مما جرى على الأرض منذ الانفجار الكبير ، بل منذ وجد هذا الكوكب الغريب .
الذي كان إنسانه الذي سكنه منذ البدء يطلب الشيء ونقيضه، ويحب الليل كما يحب النهار ، ويرتاح إلى الضوء مثل ارتياحه إلى الظلمات.
ويعجب وهو يرى مواليده تترى، بمثل ما يقبل تدفق جنائز الموت على كل طريق.
أنا الآن لا أعجب إلا من هؤلاء الذين جلسوا وقد ولوا البحر ظهورهم ، كأنهم لا يستنكفون ما تقوم به الحياة من حولهم، وقد قبلوا بكل أحكام هذا الموات.
كان الشيوخ من كل الأجيال يتهاوون على الرصيف، كأنهم لا يسمعون إلى غير صراخ من يبكون ، ولا يرون من الحياة إلا جانبها المظلم , حين فرّ الفرح من شِباك كانت قد تمزقت أمام ضربات الخيبة التي لم تراجع أمام رغباتهم إلا زمنًا قصيرا وهم يتوجعون…
يستند إلى حاجز قصير يفصل الرمل عن ممر الراجلين مجموعة شبان ، هم تحت تأثير مخدِّر مَّا، فلا يصلها مما يرتفع حولها من هدير الأمواج إلا ما تظنه قهقهات قردة أو صيحات متوحشين، فتنخرط المجموعة بكامل أفرادها في ضحك هستيري، بينا يدعي شيخ وقور لنفسه أنه يكاد يميز ما يشبه دبيب نمل كثير تتزاحم صفوفه وتندفع فيما ي حسبه الرائي صفوف أجناد مقاتلين، لا يدري الشيخ المسكين أين أول مكانه على رمل البحر أم على جلد جسده الجاف اليابس كلحاء شجر ميت منذ سنين؟ والمارة من كل الأعمار في عجلة كان هناك من بطاردهم، أفلم يأتوا مختارين؟ فأفواجهم لا تنقطع ، وكأنهم وفود حجيج ، من كل حدب وصوب يفيضون، لغير ما حاجة هذه المرة ، فهم بالفعل اشبه بقطيع نمل لا يرى أحد بداية حركتهم ولا أين ينتهون. ولا ينتبه الشيخ من سكرته أو ترى العابرين حوله ينقطعون.
فيا هدير هذا البحر أين أنت من صراخ المعذبين ، وحشرجات غرثى وظمأى لم يأكلوا ولم يرتووا منذ دهور. أين أنت من أصوات لم تعرف ما الغناء، ومن رفرفة عيون لم تدري ما النور.
مرَّ أكثر أحبابنا على هذه الارض وهو لا يرتعبون من غير مرأى قبور فوق قبور.
لذلك كان أحب غناء إلى أنفسهم في لون الصمت الذي يرعب فتنشأ أصوات لا تني بيننا تدور وتدور.
هدير هذا البحر وغيره ،هنا وهنالك ، منه ، مهما تطامَى الموج أم تراخى الماء، فصبّي نيران بروقك ، صبيها على الطغيان انصباب جحيم أي بَرِّ مقرور، واغرقي كل ما يعلو من أمواج النيران على كل استبداد في أي بحر مسجور.
ـ تشكيل : ByVALERI SOKOLOVSKI ـ