تَحْتَ سَقِيفَةِ كُوخٍ مِنْ قِشٍّ هَاجِعٍ فِي أَعْلَى الْجَبَلِ، وَعَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ الْمُزَمْجِرِ يَتَخَيَّلُ حَفِيدَتَهُ ” صُوفِي ” الَّتِي لَا تَبْرَحُ ذِهْنَهُ. يَراهَا كَغَيْمَةٍ وَحَيدَةٍ فِي سَمَاءٍ بَعِيدَةٍ. شَعْرُهُ الطَّوِيلُ الْمُخَضَّبُ بِالْبَيَاضِ لَمَّا يَنْفُتُهُ الرّيحُ لِلْخَلْفِ يَغْمُرُهُ إِحْسَاسٌ بِالاخْتِلاءِ، كَمَا لَوْ أَنَّهُ الْكَائِنُ الْوَحِيدُ الَّذِي تَبَقَّى مِنَ الْخَلِيقَةِ. يَسْتَعْذِبُ خَرِيرَ مَاءِ الوادي الْمُلْتَطِمِ بِمَفَاصِلِ الصَّخْرِ، فَيَأْخُذُهُ تَدَفُّقُهُ إِلَى السَّهْوِ لِيُعِيدَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَيَبُثُّ فِيهِ ما يُشْبِهُ السَّكِّينَةَ. غَيْرَ أَنَّهُ سُرْعَانَ مَا يَغَارُ مِنْ صُورَةِ الْمَاءِ الْجَسُورِ الَّذِي يَجْرِي مُتَسَارِعًا نَاسِيًّا مَاضِيَهُ. فَيَغْمُرُهُ ثانِيةً إِحْسَاسٌ كَمَا لَوْ أَنَّ التَّدَفُّقَ يَغْسِلُهُ مِنَ الدَّاخِلِ. كَمْ تَمَنَّى لَوْ كانَتْ لَدَيْهِ نَفْسُ عَزِيمَةِ وَقَسْوَةِ الْمَاءِ الْمُنْتَصِرِ عَلَى نَفْسِهِ. وَأَنْ يَتْرُكَ مِثْلَهُ مَا مَرَّ بِهِ مِنْ خِذْلَاَنٍ وَجِرَاحٍ غَائِرَةٍ، وَيَتَخَلَّى عَمَّا بَقِيَ عَالِقاً فِي خَاطِرِهِ مِنْ انْكِسَارَاتٍ وَمَا فَاتَتْهُ مِنْ أَشْيَاءَ.
مِنْ غَيْرِ اكْتِرَاثٍ اِلْتَقَطَ حَصَاةً مِنَ الْأَرْضِ وَرَمَى بِهَا فِي الوادي. لَمْ تَكَدْ تَرْتَطِم بِالْمَاءِ حَتَّى جَرَفَهَا التَّيَّارُ. تُراهُ يَقُولُ فِي سَرِيرَتِهِ مُتَوَاطِئًا مَعَ النَّهْرِ:” لَيْتَنِي كُنْتُ بِذَاتِ قَسْوَتِكَ “. وَلَوْ أَنَّهُ فِي قَرَارَةِ نَفْسِهِ يُشْفِقُ عَلَى الْحَصَاةِ الْمُكْرَهَةِ عَلَى مَصِيرِهَا، وَيَفْهَمُهَا وَيَرَاهَا أَقْرَبَ إِلَيْهِ بَلْ يَرَى نَفْسَهُ أقْرَبَ إِلَيْهَا مِنَ النَّهْرِ. غَيْرَ أَنَّهُ انْتَبَهَ إِلَى أَنَّ الْأَحْجَارَ كَالْنَّاسِ. مَتَى ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُمُ اسْتَقْرُّواْ وَمَتَى خَفَّتْ مَوَازِينُهُمْ لَا تُحْتَمَلُ خِفَّتُهُمْ. عِنْدَئِذٍ أبْرَقَ فِي ذِهْنِهِ بَيْتُ الشَّافِعِي:
أَمَا تَرَى الْبَحْرَ تَعْلُو فَوْقَهُ جِيَّفٌ
وَتَسْتَقِـــــرُّ بِأقْصَـــــــى قَاعِــــــــــهِ الدُّرَرُ.
لَيْسَ الْقَوِيُّ مَنْ يَسْتَعْمِلُ قُوَّتَهُ تُجَاهَ مَنْ لَيْسَتْ لَدَيْهِ. فَالسَّموحُ الْحَقِيقِيُّ مَنْ تَسَعُهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمُعاداة لَكِنَّهُ يَخْتَارُ أَنْ يَتَرَاجَعَ عَنْ فِعْلِهِ. لَيْسَ لِأَنَّهُ ضَعِيفٌ وَلَا مَخَالِبَ لَهُ، بَلْ لِأَنَّهُ يُدْرِكُ بِأَنَّ لِلتّقْريعِ مَخَالِبَ أشْرَسَ تَنْهَشُ بِهَا الْسّاخِطَ مِنَ الدَّاخِلِ.
مازالَتْ خَاطِرَةُ الْحَصَاةِ تَسْتَغْرِقُ تَأَمُّلَاتِهِ حَتَّى انْصَرَفَ بِهِ التَّدَاعي إِلَى مَا حَصَلَ لِلْفَيْلَسُوفِ الألْماني الْعَتِيدِ.
ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ 1889 فِي تُورِينُو. يُحْكَى أَنَّ “نيتْشَه” رَأَى حُوذِيًّا مُكْفَهِرًّا يَجْلِدُ حِصَانَهُ بِسَوْطٍ مِنْ غَيْرِ شَفَقَةٍ إِلَى أَنْ أَدْمَاهُ. اِهْتَاجَ نيتْشَه لِرُؤْيَتِهِ مَشْهَدَ الْعَسْفِ الشَّنِيعِ، فَهَبَّ مُضْطَرِبًا يُطَوِّقُ رَقَبَةَ الْحِصَانِ الدَّامِيَةِ. يَحْمِيهِ مَنْ شَحَطِ السَّوْطِ جاهِشاً بِالْبُكَاءِ قَائِلًا لِلْحِصَانِ:” أَنَا أَفْهَمُكَ “. ثُمَّ هَوَى مُنْهَارًا جَنْبَ الْحِصَانِ الَّذِي خَرَّ بِدَوْرِهِ أرْضًا، كَمَا لَوْ أَنَّ الْكَلِمَاتَ وَقَعَتْ فِي أُذُنِهِ. ثُمَّ فَقَدَا وَعْيَهُمَا مَعاً.
وَبَعْدَ يَوْمَيْنِ مِنَ الْغَيْبُوبَةِ اسْتَفَاقَ نيتْشَه لِيَعْبُرَ مِنْ فَجِيعَةٍ إِلَى أَفْظَعَ مِنْهَا. وَيَدْخُلَ فِي غَيْبُوبَةٍ أَطْوَلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، مِنْ نَوْعٍ خَاصٍّ، إِذْ أَوْصَدَ عَلَيْهِ بَابَ جُنُونِهِ، وَهَوَى فِي لَيْلِهِ الْحَالِكِ الظُّلْمَةِ. ثُمَّ دَخَلَ فِي عُزْلَةٍ تَامَّةٍ عَنِ الْعَالَمِ لِمُدَّةِ إحْدَى عَشْرَ سَنَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْطِقَ بِكَلِمَةٍ إِلَى أَنْ مَاتَ.