من المعلوم أن العربية السعودية قد قررت في السنوات الأخيرة تفكيك الوهابية العالمية والتراجع عن الغلو والإرهاب والتخريب الذي عاثت به فسادا في بلدان العالم، وكذا التراجع عن تمويل المساجد والجمعيات السلفية التي كانت تنفق عليها في القارات الخمس، مما كان قد أدى إلى انتشار فرق التكفير والعنف في مختلف أرجاء المعمور، وحلول الكراهية والتنافر محل السلم والتسامح في العديد من بلدان المسلمين حتى قتلوا بعضهم بعضا وخربوا بلدانا بكاملها.
وقد أعلن محمد بن سلمان نفسه عن تغيير السياسة الدينية للسعودية في مؤتمرات عديدة مؤكدا على أن التطرف الذي تم نشره في السابق كان تحت ضغط التصدي للزحف الشيعي بعد ثورة الخميني سنة 1979، مما حذا بهم إلى نوع من التوليف بين العقيدة الوهابية والإخوانية المصرية، وبناء خطاب مضاد للدولة بمعناها الحديث، فكانت نتيجته إحداث خراب كبير مادي ومعنوي في كثير من بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط. وقد انبرى مجموعة من المشايخ السلفيين السائرين إلى نهج الدولة للاعتذار عن التطرف السابق وقالوا “لقد عسّرنا على الناس” بتلك الدعوة التي لم تكن ضرورية بذلك الأسلوب اللاعقلاني. كما أودعت السلطات السعودية في سجونها كل المشايخ الذين رفضوا هذا التراجع عن الإرهاب والتطرف، وحكمت على بعضهم بالإعدام ومنهم سليمان العودة، وهو غلو من الدولة في مواجهة غلو المشايخ، بينما ما تحتاج إليه البلدان الإسلامية اليوم ليس القرارات السلطوية أو القبضة الحديدية، بل التربية والتعبئة والتأطير على القيم الإنسانية النبيلة، وتغيير أسلوب التفكير والسلوك وقواعدهما، والاحتكام للحوار والنقاش والتبادل البناء.
غير أن الكثير من الوثائق التي راكمها الغلو الوهابي عبر عقود ظلت في الرفوف، ويستعملها اليوم فلول الأتباع السلفيين بين الفينة والأخرى، حيث يُخرجونها من الأرشيف ويعيدون نشرها خارج سياقها الأصلي على أنها مواقف جديدة للجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية، والتي لم يعد من الممكن أن تنشُر مواقف مشابهة في الوقت الراهن لتعارضها مع النهج الجديد الذي اتخذته السعودية، ولكون مضامينها التي أصابها التقادم لا تتماشى مطلقا مع الكثير من القوانين التي سنتها السعودية في المدة الأخيرة وأقبل عليها المجتمع السعودي نفسه.
ويبدو أن مناسبة إحياء “الفتوى” القديمة الميتة ضدّ فكرة التعايش بين الأديان هو التدشين الفعلي يوم الخميس 16 فبراير 2023 لما سمي “بيت العائلة الإبراهيمية” الذي كان قيد البناء منذ 2019 بالإمارات العربية المتحدة، والذي حضر في وضع حجره الأساس آنذاك شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، على هامش توقيع “وثيقة الأخوة الإنسانية”.
مناسبة هذا التوضيح هو نشر بعض المنابر السلفية المعروفة بتطرفها لهذه الفتوى كما لو أنها حديثة الصدور، دون الإشارة إلى تاريخها الحقيقي، وهو نوع من التزوير والسلوك المناقض للفضيلة، والذي يتعارض مع الخطاب الأخلاقوي السطحي الذي يتبناه الإسلاميون بمختلف تنظيماتهم. وغرضنا من التعرض لهذا الموضوع هو تذكير بمضامين هذه الفتوى القديمة لأنها تتضمن المبادئ الأساسية للفقه التراثي القديم التي صارت اليوم في ظل الدولة الحديثة من مظاهر الغلو والتطرف الذي أدى إلى ما نراه اليوم من تصدع ونزاع وتخلف في العديد من بلدان المسلمين. وهي المبادئ التي مازال البعض يحاول إحياءها رغم نتائجها السلبية. كما نهدف بإطلالتنا على هذه “الفتوى” التعريف بالأفكار الخطيرة التي مازال بعض الذين يعيشون بين ظهرانينا يحملونها، مُهدّدين بذلك السلم الاجتماعي وأمن الآخرين.
ماذا تقول “الفتوى” التي قام المتطرفون ببعثها من جديد ضد شعارات “الأخوة الإنسانية” و”التعايش السلمي بين الديانات” و”حوار الأديان” و”المساواة على قاعدة المواطنة”؟
تقول “الفتوى” الغريبة:
ـ “إن من أصول الاعتقاد في الإسلام التي أجمع عليها المسلمون: أنه لا يوجد على وجه الأرض دين حق سوى دين الإسلام فلم يبق على وجه الأرض دين يتعبد الله به سوى الإسلام”، وهو إنكار صريح لوجود سبعة ملايير من البشر يعتنقون عشرات الديانات المختلفة.
ـ وتضيف الفتوى الميتة التي تم بعثها أن القرآن “ناسخ لكل كتاب أنزل من قبل؛ من التوراة والزبور والإنجيل وغيرها، ومُهيمن عليها”. ما يعني عدم إمكان احترام أتباع تلك الكتب والتعايش معهم.
ـ أن التوراة والإنجيل “نُسخا بالقرآن” أي لم تعُد لهما مصداقية، “وأنه قد لحقهما التحريف والتبديل بالزيادة والنقصان”. وفكرة نسخ ما سبق وختم الرسالات تؤدي حتما عند هؤلاء إلى أن الإسلام بداية التاريخ ونهايته، ولا شيء خارجه أو قبله أو بعده، بينما يخبرنا التاريخ بوجود ديانات سابقة على الإسلام وظهور أخرى بعده كالبهائية، التي يؤمن بها اليوم ملايين البشر عبر العالم، كما يُخبرنا العلماء المختصون في مخطوطات القرآن بأن النسخ القديمة للقرآن المتوفرة في المتاحف مختلفة أيضا وفيها زيادة ونقصان وتغيير في الكلمات، بل هناك سُور أدمجت في بعضها البعض في نسخ تعود إلى قرون طويلة. كما يُخبرنا الواقع بأن الإسلام انقسم في تاريخه إلى إسلام سني وإسلام شيعي اتهم كل طرف منهما الآخر بالضلال والتحريف، ومازالت الحرب مستعرة بين الطرفين إلى اليوم.
ـ وتضيف الفتوى بأن :”من أصول الإسلام أنه يجب اعتقاد كُفر كل من لم يدخل في الإسلام من اليهود والنصارى وغيرهم، وتسميته كافرا ممن قامت عليه الحُجة، وأنه عدو لله ورسوله والمؤمنين”. وهو كما يرى القارئ إعلان حرب واضح على شعوب العالم بأسره وتسفيه لمعتقداتها وتحريض عليها.
ـ وتعتبر الفتوى بأن الدعوة إلى التقارب بين الأديان “دعوة خبيثة ماكرة”، و”أن الغرض منها خلط الحق بالباطل” أي الحق الذي هو الإسلام والباطل الذي هو باقي الديانات.
ـ أن فكرة التعايش بين الأديان “دعوة آثمة” لأنها تلغي “الفوارق بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والمعروف والمنكر، وتكسر حاجز النفرة بين المسلمين والكافرين، فلا ولاء ولا براء، ولا جهاد ولا قتال لإعلاء كلمة الله في أرض الله”. وهو موقف لا يمكن أن يوصف إلا بالعداوة الواضحة لكل البشر من غير المسلمين، وبالتحريض على مقاتلتهم.
ـ تؤكد “الفتوى” على أنه “لا يجوز بناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمع واحد؛ لما في ذلك من الاعتراف بأن (…) الأديان الثلاثة (…) على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله من الأديان”، وهذا حسب الفتوى “كفر وضلال لأنه مخالفة صريحة للقرآن الكريم والسنة المطهرة وإجماع المسلمين.
إن من يُروّج لمثل هذه الأفكار بالمغرب أو غيره من بلدان المسلمين مستغلا حدث افتتاح بناية تضم مسجدا وكنيسة وكنيسا يهوديا لا يسعى إلى تحقيق السلم وبناء أية نهضة لا باسم الإسلام ولا غيره من الديانات والفلسفات، بل كل مسعاه إثارة الفتن وإشاعة الكراهية بين الشعوب وأتباع الديانات المختلفة، وهو أمر مرفوض لا يمكن إلا إدانته.
إن المسلمين يُعدون أقلية صغيرة في نادي البشرية وسط ثمانية ملايير من سكان العالم، وإن الدعوة إلى تكفير بقية العالم وتزكية دين واحد كيفما كان هو أمر بعيد عن الحكمة والتبصر، وبعيد عن العلم ومبدأ التآخي بين البشر، كما يضرب في الصميم القيم التي عملت قوى الخير من النخب الطليعية عبر العالم على نشرها منذ بزوغ الأزمنة الحديثة.
ويظل البديل الأمثل لهذا النوع من الغلو والتطرف المُشين أن تعمل الدول الإسلامية على تأهيل ودعم نخبة نيّرة من الفقهاء يعملون على تغيير هذه القراءة التراثية للدين الإسلامي وتقديم قراءة بديلة من داخل المرجعية الإسلامية نفسها، تربط النصوص بسياقاتها التاريخية، وتجعل الإسلام دينا محترما بين الأديان، وتمحو الصورة السلبية التي صنعتها له قوى الشر السلفية والإخوانية عبر العالم.