الفشل في بناء نموذج ديمقراطي وتنموي ناجح هو ما يميز كل دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط بدون استثناء، مما يجعل السؤال أعلاه أهم بكثير من سرد المنجزات أو وضع الخطط والبرامج التي لا يتحقق منها إلا النزر اليسير، وترجع أهمية هذا السؤال لسببين اثنين:
ـ أنه سؤال يحمل ضمنيا اعترافا بالخطأ والفشل، عوض الاستمرار في التخبط على غير هدى.
ـ أنه سؤال يسمح لنا بالانكباب على أسباب فشلنا وتدارسها والبحث الدءوب عن المخارج الممكنة من المأزق الذي نتواجد فيه.
لا يتعلق السؤال المذكور بمجال محدد من مجالات العمل والإنتاج، ولا ببلد بعينه، بل هو سؤال عام يخص الفشل في الانتقال ـ منذ سنة 2011 تحديدا ـ بهياكل الدولة ومؤسساتها وترسانتها القانونية ومنطقها وفلسفتها من السلطوية إلى الديمقراطية ومن المزاجية إلى العقلانية ومن الفساد إلى الالتزام بالقانون. إنه وضع لا يتعلق بالمغرب حصرا بل يشمل مختلف دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ما دام لا يوجد لدينا حتى الآن بلد يمكن أن نفخر بتجربته الديمقراطية أو نتخذه قدوة.
وقبل اقتراح بعض عناصر الإجابة على السؤال المطروح أعلاه، أودّ قبل كل شيء أن أستبعد جوابا مشوشا أعتبره مسؤولا عن الوهم الكبير الذي يمنعنا من رؤية الحقيقة، ومن النظر إلى الواقع بعين متجردة. إنه الجواب الذي ينسب فشلنا إلى عوامل خارجية، إلى الآخر، والذي يؤدي مباشرة إلى إعفائنا من تحمل مسؤوليتنا عن الفشل الذي نصنعه بأيدينا، ولا نكاد نخرج من مرحلة منه إلا لندخل مرحلة أخرى أكثر ثقلا وأقسى أثرا من سابقتها.
لا شك أن للعوامل الخارجية دور أكيد في عرقلة تطورنا، لكن من الغلط الاعتقاد بأنها العوامل الوحيدة أو الأكثر تأثيرا، فالأيادي الأجنبية التي تتلاعب بإرادتنا إنما تنجح بسبب جاهزيتنا للوصاية وعدم توفر إرادة حقيقية لدينا للانكباب على أعطابنا وإصلاحها.
إذا ثبت لدينا بأننا مسؤولون عن فشلنا أكثر مما نحن ضحية مؤامرات أجنبية، فسيكون علينا أن نتأمل وضعيتنا من مختلف جوانبها، لنجد بسهولة ويُسر بأن مشكلتنا هي مشكلة نظام أولويات:
ـ أعطينا الأولوية للصراع والتباغض والتشرذم على التنسيق والتعاون وتقوية الشعور الوطني الذي من شأنه أن يجعلنا نشكل قوة قادرة على تغيير موازين القوى لصالح التطور. وأدى ذلك إلى تعميق الشرخ والخلاف بين النخب عوض البحث عن المشترك الوطني وتقويته من أجل البناء المستقبلي، مما جعل كل طرف يشتغل على عناصر الفرقة والخلاف، حتى أن هناك من برع في استعمال طاقة الجهل والأمية الكامنة في المجتمع ضدّ خصومه السياسيين.
ـ أعطينا الأسبقية للبنيات التحية المادية على عقول المواطنين ووعيهم، واعتقدنا أن التطور ممكن فقط بجلب التقنية مفصولة عن إطارها الفلسفي ومبادئها الفكرية العقلانية.
ـ أعطينا الأولوية لقوة الدولة وهيبتها على كرامة المواطن، بينما قوة الدولة وهيبتها في كرامة المواطن وشعوره بالانتماء إلى الدولة.
ـ أعطينا الأسبقية لـ “ثوابت” سياسية ودينية حولناها إلى نوع من “الفيتو” ضدّ أي تطور، وضدّ كل من يطالب بحق من حقوقه الأساسية التي يقرها الدستور على الورق دون أن تعرف سبيلها إلى التفعيل.
ـ أعطينا الأولوية للمراكز الكبرى على حساب المناطق النائية التي تناسيناها حتى هجرها أهلها بحثا عن أماكن لهم في المركز لكي تتذكرهم الدولة.
ـ قمنا بحماية المُفسدين الكبار ومعاقبة فاضحي الفساد ومحاكمتهم رغم أنهم محميون دستوريا، وسارعنا إلى عقد محاكمات موسمية لصغار السُّراق وناهبي المال العام من الدرجة الثالثة ذرّا للرماد في العيون.
ـ أعطينا الأولوية للشعارات الكبرى الرنانة على حساب العمل والإنجاز الفعلي، ورفعناها دون أن تتعدّى حدود البلاغة بل اعتبرناها في حد ذاتها إنجازات تاريخية، مما أدى إلى الإحباط واليأس لدى غالبية فئات المجتمع.
ـ أصررنا على الحفاظ على الطابع المزدوج للدولة واعتبرنا التلفيق بين التقليدانية المحضة والحداثوية السطحية أسلوبا للحفاظ على التوازنات الداخلية المعرقلة للتنمية، ولم ننتبه إلى أن تبني التراث دون التمييز بشجاعة بين القيم الحية والميتة التي يتضمنها، هو ضرب من العبث الذي يجهض كل محاولات النهوض واليقظة.
ـ حجرنا على الشباب والنساء وهم أكثر من نصف المجتمع، بينما لا تطور ولا رقي بدون تحرير الطاقات الشابة وجعل النساء مساهمات في كل القطاعات بدون وصاية، بل من خلال إنصافهن وإشعارهن بقيمتهن الإنسانية، مما يرفع من نسبة مردوديتهن بشكل كبير.
ـ انعدمت الحكمة لدى الطبقة السياسية التي تحتكر كل شيء: السلطة والثروة والقيم، ولا تقبل التنازل إلا عند الانفجار واشتداد الفتنة والتصادم مع الدولة.
ـ رسخنا التضارب في مضامين النظام التربوي وأغرقناها في التناقضات القاتلة بين “التربية على المواطنة” التي بنيت على الفكر المعاصر، و”التربية الدينية” التي بنيت على الفقه القديم الذي ينتمي لعصر آخر غير عصرنا، ويقوم على مفاهيم لم يعُد لها أي طابع إجرائي في ظل الدولة الوطنية الحديثة، مما انعكس سلبا على شخصية المتمدرسين وألقى بهم في أتون من القلق والتناقضات والتمزق الهوياتي.
ـ أدخلنا التناقض إلى صلب المشاريع بل وإلى عمق المؤسسات نفسها فيما بينها، حيث أصبحنا نرى مشاريع تبنى في جهة من جهات الدولة ويتم تخريبها وعرقلتها في جهة أخرى، مما يدل على وجود صراع وتصادم وتردّد داخل الدولة نفسها في غياب الحسم المطلوب في الاختيارات الكبرى.
ـ أظهرنا قدرة كبيرة على هدر الزمن وتركه يمر بدون عمل تأسيسي يغير واقع الناس، فشاع نتيجة ذلك شعور بالتراخي وباللامبالاة المهنية التي أفضت إلى ضعف إنتاجية الأفراد.
ـ نادينا بالعلم والبحث العلمي دون تخصيص ميزانية في مستوى الشعار المرفوع، بينما قمنا في الواقع بتمويل الأضرحة والمزارات ونشر الخرافة والدجل والمدارس السلفية التي تعاكس في دروسها ومناهجها التزامات الدولة نفسها وتنازعها في أبسط مرتكزاتها.
ـ جعلنا الثقافة في ذيل اهتمامات الدولة بينما هي روح الأمة ومنارها، مما أدى إلى جعل السياسة عملية تقنية عمياء بدون أفق أو رؤية واضحة.
لقد بشرنا بنموذج تنموي جديد دون أن نفعل أي شيء من أجل إنجاحه، وفشلنا في بناء نموذج سياسي ديمقراطي ناجح وفشلنا في خلق مجتمعات معرفة متطورة ودينامية ومتحررة وفشلنا حتى في تنظيف أزقتنا وجعل مواطنينا يحترمون الفضاء العام المشترك فيما بينهم.
علينا أن نعترف بفشلنا وأن نتوقف عن تكرار عبارات غبية تجعلنا مطمئنين إلى تخلفنا واثقين من إرادتنا في إعادة إنتاج الأخطاء.