“تكاد الثقافة اليوم في صورتها اللغوية أو الأبجدية في العالم كله، بخاصة في العالم الإسلامي، أن تنشطر إلى فضاءين، فضاء الدين وفضاء الشعر.لا نرى في فضاء الدين، بخاصة الأوروبي- الأميركي، إلا العنف والحروب تدميراً وإبادة، بطرق وأشكال مختلفة ومتنوعة وعلى جميع الصعد.
وفي حين تحيط بهذا كله، احتفاء ودعماً وتمجيداً، مختلف أشكال الإعلام، يقف الشعر وحيداً، مهمشاً، ومتهماً. هكذا يزداد إيغالاً في آفاقه الخاصة في التفات حميم إلى آبائه الأول سائلاً، ماذا على الشعر أن يفعل يا جلجامش؟ وأنت يا هوميروس، قل لنا إلى أين يسافر أحفاد عوليس، وهل سيعودون من هذا السفر، وكيف؟ وإلى أين يعودون؟ وقبل ذلك إلى أين يسافرون؟
ويا فيرجيل، أحببنا شعرك في المنفى، حتى كدنا أن نحب المنفى نفسه.
وما أخطر اللغة نفسها، هي المشتركة بين أهل الشعر وأهل الدين، فهي تقدر أن تكون أداة للطمس والتزوير والمحو، وبدلاً من أن تكون طاقة لطرح الأسئلة، تتحول إلى مستودع – مستنقع لمياه الأجوبة اليقينية الجاهزة.
هكذا، في الممارسة، تصبح الحقيقة كذباً، ويحل الكذب محل الصدق، ويصبح الإنسان هو نفسه، توهماً. وهكذا يحل الوهم محل الواقع، ويغيب المرئي، لكي يأخذ اللامرئي مكانه.وها هو عالمنا الذي نعيش فيه يسيطر عليه فن الطمس والمحو والتهميش لكل ما هو إنساني، حقيقي، كوني، ولا مكان في هذا العالم للذاتية الحرة المستقلة.
بلى، العالم الذي نعيش فيه هو عالم حرب باطنها أشد هولاً من ظاهرها، لأن الباطن تدمير للإنسان من داخل في هويته العميقة ذاتها، أما الظاهر فيتصل بتدمير الحقيقة، وهو ما يعبر عنه الشاعر الإنجليزي كيبلينغ قائلاً، “الحقيقة هي الضحية الأولى في الحرب”. فالحرب في وجهها الحقيقي محو لمبدأ الحقيقة ومحو للشعر، وهي أولاً محو للإنسان. حقاً، ما أخطر اللغة اليوم يا هوميروس!
كل شيء يتحول إلى حرب ضد كل شيء، ولم يبق في السماء نجمة إلا أنزلت على خوذ المحاربين. كأنني في هذا الضوء أرى خلخال امرأة من الشرق يصبح قرطاً في أذن امرأة من الغرب، وأكاد أن أرى البقية آتية في موكب أحمر. لكن، إذا كان إنسان الطبيعة يعيش شعرياً، على هذه الأرض، كما يقول هولدرلن، وهي نفسها الأرض التي يعيش عليها إنسان السماء حربياً، فإن الشعر يظل الضوء الأول الذي يتيح لنا أن ننظر إلى الكون، بوصفه واحداً لا يتجزأ، وبوصف الإنسان سره ومعناه، وسرته التي ينطوي فيها، هي الصغيرة “العالم الأكبر”، وفقاً لما يقوله محيي الدين بن عربي.
هكذا يظل الشعر الطاقة الإنسانية الخلاقة الأولى التي تعطي للعالم معناه الإنساني الأعمق، والتي تقدم له باستمرار صورة إنسانية جديدة، وتؤسس لعلاقات جديدة بين اللغة والأشياء وبين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والعالم”.
كلمة الاحتفال بالجائزة:
“اسمحوا لي أن أجدد شكري للسيد رئيس بلدية إزمير وللسيد مدير المهرجان، وأن أرى في هذه الجائزة، جائزة هوميروس، رمزين أساسين في العمل الثقافي اليوم، على المستوى الكوني.
يتمثل الرمز الأول في دور الشعر ومكانه في العالم الحديث، وهو دور خلاق بوصفه التعبير الأكمل عن الإنسان المبدع، كمثل ما هو الحب التعبير الأكمل عن الإنسان العاشق، ومهما بدا لبعضنا أن الشعر يزداد عزلة على المستوى الأفقي، مستوى الانتشار والقراءة، فإنه على المستوى العمودي يزداد تأصلاً، بحيث تبدو فرضية زوال الشعر شكلاً من فرضية زوال الحياة نفسها، فالشعر هو شمس الأبجدية التي هي شمس الإنسان.
ويتمثل الرمز الثاني في أن الجائزة تجسيد للانفتاح والحوار الخلاق بين الذات والآخر، وللسفر في مجهولات العالم والأشياء، ولوحدة الكائن البشري، فيما وراء اللغات والأعراق والبلدان.
وتجد هذه العلاقة الخلاقة بين الذات والآخر أعلى تعبير عنها في التجربة الصوفية، بخاصة في أفقها العربي، تقول هذه التجربة بلسان أحد كبارها،أدين بدين الحب أنى توجهتركائبه فالحب ديني وإيماني.
وتقول بلسان كبير آخر،
فسمني وادعني في كل منزلة بمسلم ويهودي ونصراني
وتقول بلسان كبير آخر،
الصديق آخر هو أنت.
وقد ترجمت الفلسفة العربية بلسان ابن رشد هذا القول الشعري إلى لغتها العقلية، فسمت فيلسوفاً لم يكن مسلماً ولا يهودياً ولا نصرانياً، المعلم الأول.
هذا الفيلسوف هو أرسطو، فالإنسان حتى حين يقوم بالسفر داخل ذاته يرافقه الآخر المختلف في هذا السفر، فالآخر المختلف عنصر تكويني من العناصر التي تكون الذات.
في ضوء هذا كله، أرجو أن تكون هذه الجائزة التي شرفني مؤسسوها بأن أكون أول من تمنح له، رمزاً يتوج الإبداع في ذاته، في معزل كامل عن انتماءات المبدع، السياسية أو الأيديولوجية أو العرقية، بحيث تكون فريدة ومضيئة ثقافياً وإنسانياً، وهذا ما تفتقده الجوائز الشعرية في العالم كله من دون استثناء، فهي تمنح في ضوء الانتماءات، غالباً، أكثر مما تمنح للإبداع في ذاته وللرؤية الخلاقة المتفردة شعرياً وفكرياً وجمالياً”.
*كلمتا أدونيس في مهرجان هوميروس الدولي للفنون الأدبية