قبل وصولي إلى ملاطية ، لم أكن أعرف حتى اسمها ، وهذا – بلا أدنى شكٍّ – جهلٌ مني ، على الرغم من أنني أسافر إلى تركيا بانتظام منذ سنة 1991 ميلادية ؛ لأنها كانت من البلدان التي حلمتُ بالسفر إليها مع بلدانٍ أخرى أساسية في الثقافة والحضارة مثل : إسبانيا ( خصوصًا المدن الأندلسية ، وهي كثيرة ) ، والمغرب ، وإيران ، وقد تحقَّق لي السفر مرات عديدة إليها فيما عدا إيران ، وربما كان الحلم يجتاحني كثيرًا ومُلحًّا ؛ لأنني عشتُ تاريخ هذه البلدان ، وقرأتُ أدبها ، ودرَستُ تاريخها ، وصار بعضٌ ممن عاش فيها أو سكنها أو مرَّ بها من شيوخي وأئمتي في العشق والتصوف .
وسفري إلى ملاطية – الذي كان للاحتفال بكتابي الشعري ” سماء باسمي ” بعد انتقاله إلى اللغة التركية بمعرفة البروفيسور محمد حقي صوتشين ، وصدوره عن دار قرمزي – جاء بعد سفرٍ كثيرٍ إلى استنبول وأنقرة وإزمير وقونية وسواها من مدن سافرت إليها برًّا وليس بالطائرة .ولم أكن أعرف أن ملاطية ( التي هي حديقة الله على أرضه ، والمركز الأهم من مراكز المسيحية في العالم القديم ) يعود تاريخها إلى خمسة أو ثمانية آلاف سنة قبل الميلاد ، حسبما تقول الآثار والشواهد التي قادت العلماء إلى تحديد هذا التاريخ ، فهي متحفٌ مفتوحٌ على حضاراتٍ شتى ، وتعدُّد خلاق ومتنوِّع من البشر الذين عاشوا على ترابها ، إذ عاش فيها الحيثيون ، والفرس ، والرومان ، والبيزنطيون، والأمويون، والعباسيون ، والسلاجقة ، والمماليك، وقد دخلوا ملاطية سنة 1515 ميلادية تحت الحكم العثماني .وتجوالي اليومي بصحبة صديقي المثقف التركي حميت أوزبولات – والتاء في اسمه ننطقها نحن في العربية دالا ، فمثلا اسمي يصبح أحمِت الشَّهافِي – يؤدي بي إلى كشف الإرث الثقافي والحضاري المتراكب المتراكم المتعاقب ، والذي ينعكس على أداء البشر وسلوكهم في التعدُّد والتنوُّع وقبول الآخر والغريب والضيف ، والتعامل معه بالذي هو أحسن وأكرم .
وأنا أجول شوارعها كل يوم، أذكر أن هذه المدينة كان قد أحرقها خسرو” كسرى” الأول أنوشروان بعد سنة 575 ميلادية ، وقد عاش بين 501 – 579ميلادية ، و امتد حكمه ثمانية وأربعين عاما، وملاطية التي تبعد عن استنبول 853 كيلو مترًا ، ويسكنها حوالي نصف مليون إنسان ( تقع على ارتفاع 954 مترًا تقريبًا عن سطح البحر، عند المجرى الأعلى لنهر الفرات ) التي اختارها الله في غرب الأناضول الشرقية ، وبأن تكون جُزءًا من جبال طوروس، التي تطلُّ على وادي الفرات، و درستُها عندما كنت تلميذًا في المدرسة ، هي أرض للإشراق والنور ، إذ تجلَّى فيها المتصوفة، وعرفها المريدون ، وأرسلت بعض أبنائها إلى الأزهر في أزمنة ازدهاره وسطوعه العلمي والديني ؛ لأنها منذ أن استعادها المسلمون سنة 139 هجرية – 756 ميلادية في زمن العباسيين ( الخليفة جعفر المنصور ، ثاني خلفاء بني العباس وأقواهم (712-775 ميلادية ، والذي كانت خلافته في سنوات (136 – 158هـجرية / 754 – 775ميلادية ) ) ، وقد تهيأت لتُواصل فتح أبواب الأسرار والأساطير التي تتسرَّب من تواريخ الأقوام ، ومن مياه الأحجار ، التي تروي نباتاتٍ غريبةً ، تشقُّ قلوب الصخور؛ كي تحكي وتُفشِي ما غمُض على الإنسان من مدارك وحقائق ، بعد أن كان قسطنطين ملك الروم قد هدم أسوارها ، وتوغل وتقدَّم في بلاد المسلمين، في وقتٍ كان فيه العباسيون منشغلين بصراعاتهم وخلافاتهم التي سادت دولتهم ، وكانت عنوانا دالا عليها .
وكان معاوية بن أبي سفيان بعد أن صار واليًا على الشام والجزيرة سنة 23هـجرية قد وجَّه حبيب بن مسلمة الفهري القرشي ( ولد قبل الهجرة بسنتين ومات سنة 42 هجرية ) إلى ملطية، ففتحها عُنوةً .في أرض كهذه اسمها ملاطية، أُحرِقت وهدمت وأُبيدت أكثر مرة طوال تاريخها ، وشهدت مغامرات عسكرية ، وغزوات احتلالية ، وتقلُّب ديانات ، وتعدُّد عرقيات، وتنوُّع أجناس ، كان لابد أن يخرج من أهلها رموزٌ صوفية مهمتها الأولى تعمير قلوب الأهل الذين ورثوا الأحزان والآلام عن الأجداد ، فعمرت بالمساجد ، وأنجبت البلاد متصوفةً وشعراء من عينة نيازي المصري (1618- 1694ميلادية )، حميد الدين أفندي الشهير ب وصومونجو بابا (1331 –1412 ميلادية )، وكان له تأثير لافت خلال القرنين الميلاديين الرابع عشر والخامس عشر ، وعثمان خلوصي الدارندوي نسبة إلى بلدة دارنده والتي تبتعد عن ملاطية حوالي خمسة وسبعين كيلومترًا ، وكانت يومًا إحدى أهم المدن الثقافية والعلمية في تاريخ المسلمين ، وقد سافرتُ إليها مع صديقي حميت أوزبولات ، حيث أمضيت عشر ساعات من النهار وجزءًا من الليل ، وينحدر عثمان خلوصي (1914– 1990 ميلادية ) من نسل صومونجو بابا ، إذْ هو الحفيد الثاني عشر له ، والملقَّب ب ” سلطان القلوب ” ، ويتبع الطريقة النقشبندية ، وهو القائل : ( كُنْ خادمًا لكل حيٍّ بلا غايةٍ ولا عِوضٍ / كُنْ قدمًا ويدًا للمساكين المُشرَّدين / كُنْ كالشمسِ شفيفًا وكالأرضِ متواضعًا / مُفعمًا بالرحمةِ والسَّخاء كالماء ).وصومونجو بابا وهو الأشهر في الأناضول ، ولم يكن يُظْهِر علمه لأحد ، فقد كان يعمل خبازا ، يعجن خبزه بيديه ، ويدور في الشوارع ليبيعه ، وقد أطلق عليه الناس صومونجو بابا ، أي بائع الصومون أو ” أبو الخبز ” ، ولما عرفه الناس قرَّر الهجرة والاعتزال ، والذهاب مع أحد مريديه إلى دمشق ‘ ثم عاد في أواخر حياته إلى دارنده مُفضِّلا العزلة ، والنأي عمَّن حوله ، وتلك طبيعة كثير من المتصوفة .
وقد تأسَّست أكثر من مائة مدرسة في الأناضول زمن السلاجقة ، و عاش فيها خلال القرن الثالث عشر الميلادي أقطاب الوقت من المتصوفة مثل محي الدين بن عربي ( 558 هـجرية / 1164ميلادية – 638 هـجرية / 1240 ميلادية ) وصدر الدين القونوي (606 هـجرية – 1209ميلادية – 672 هـجرية / 1273 ميلادية ) و جلال الدين الرومي (604 – 672 هـجرية = 1207 – 1273 ميلادية ) .وفي الطريق – بعد عودتي من زيارة مقاميْ صومونجو بابا ، وعثمان خلوصي – زرتُ مقام عبد الرحمن الأرزنجاني ، الذي كان ساكنًا في الجبال بقرب أماسية – كما جاء في تاريخ ابن خلدون – ، وهو شيخٌ له كراماتٌ ، حسبما جاء في كتاب ” جامع كرامات الأولياء ” ليوسف بن إسماعيل النبهاني (1265ـ 1350هـجرية /1849ـ1932ميلادية )، وهو ينتسب إلى أرزنجان ، و تقع في شرق الأناضول وعاصمتها مدينة أرزنجان والتي دمرها زلزل عام 1939 ميلادي بقوة 7.9 ريختر ، لكن مقامه ومسجده قرب مدينة ملاطية .وقال ابن بطوطة (1304 – 1377ميلادية – 703 – 779هـجرية ) بعد خروجه من مدينة كمش: ” فوصلنا إلى أرزنجان “وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الراء وفتح الزاي وسكون النون وجيم وألف ونون”، وهي من بلاد صاحب العراق ، مدينة كبيرة عامرة، وأكثر سكانها الأرمن ، والمسلمون يتكلمون بها التركية ، ولها أسواق حسنة الترتيب ، ويصنع بها ثياب حسان تنسب إليها ، وفيها معادن النحاس، ويصنعون منه الأواني والبياسيس التي ذكرناها، وهي شبه المنار عندنا ، ونزلنا منها بزاوية الفتى أخي نظام الدين، وهي من أحسن الزوايا، وهو أيضًا من خيار الفتيان وكبارهم، أضافنا أحسن ضيافة.وقال التازي: ارْزَنْجَان في كراسو أحد المنابع الرئيسية لنهر الفرات 80 كم جنوب كوموشاب، وهذا في المنطقة التي سماها ماركوبولو أرمينيا الكبرى.
وقال: حديث ابن بطوطة عن ” أكثرية سكان أرزنجان من الأرمن” يعكس الحقيقة التاريخية التي تحدثت عنها المصادر التي اهتمت بتاريخ الأرمن الذين كانت لهم عملتهم الخاصة والذين استرعى اهتمامي بهم عندما وجدت نفسي صحبة عدد من رجالهم الذين أثاروا الانتباه إلى نشاطهم من أمثال كولبنكيان الذي يعرفه الناس من خلال مؤسسته الحضارية الذائعة الصيت “.
وفي أرض كهذه توجد مخطوطات عربية مهمة في مكتبة ديار بكر العامة بدارندة وقد أنشئت سنة 1919ميلادية ، ويبلغ عدد المخطوطات الإسلامية في هذه المكتبة 3001 مخطوط، منها 1629 مخطوط باللغة العربية؛ كما توجد مكتبة محمد باشا العامة في دارنده وتحتوب على 779 مجلدًا .
وكان من الطبيعي أن يهاجر إليها أئمة وفقهاء وعلماء خصوصًا من مصر والشام ، وذلك في زمن دولة المماليك التي امتد حكمها من 1337 وحتى سنة 1516 ميلادية ، وبالطبع كانت ملاطية ضمن حدود هذه الدولة .
* ahmad_shahawy@hotmail.com