لم تكف عقود من الغطرسة الأمريكية لتفهم الشعوب الواقعة خارج جغرافيا صناعة القرار الدولي أنه لا مصلحة لها في استمرار هذا العلو، المبني على هيمنة “إمبراطورية” على العالم برا وجوا وبحرا، وتتحكم في السماء وما تحت الأرض. لهذا لا أستغرب من هذا الكم من المغالطات دفاعا عن “إمبراطورية الكذب” بتعبير فلاديمير بوتين. فتحت عناوين كبيرة يتم تمرير “الزيف”، الذي لا ينتهي، فالعنوان الأبرز هو هذه الأوكرانيا “الجريحة” وهذا الروسي المعتدي وهلم أوصافا..بداية الحكاية ليست كما يريد الإعلام، الذي أظهر أن الموضوعية مجرد وهم، وأن إعلان الانحياز أفضل من تغليف “الكذب” بلباس الحياد..لا تكن محايدا “كذّابا” وكن منحازا واضحا. إعلام الموضوعية والرأي الآخر يقف إلى جنب الجيش الأوكراني، متلقفا اللقب الذي أطلقه الغرب “المقاومة الأوكرانية”، وهي لا تختلف في شيء عن “المعارضة السورية”، التي ضمت كل أصناف الإرهابيين من العالم.يتم تصوير روسيا دولة عدوان، دون وضع الحرب في سياقها. وجدت فيدرالية روسيا الاتحادية نفسها أمام ثلاثة خيارات لا رابع لها: ضمانات أمنية من الغرب بقيادة واشنطن، أو الحرب، أو الانقراض. وبما أن الضمانات تم رفضها من قبل أمريكا فقد بقي هناك خياران: الحرب أو الانقراض. سيستشكل علينا البعض بكون أوكرانيا دولة مستقلة وديمقراطية وهي حرة في تحالفاتها. كون أوكرانيا مستقلة هذه مجرد خدعة. في سنة 2014 تم الانقلاب على الرئيس ياكونوفيتش بعد “تماطله” في توقيع اتفاقيات استراتيجية مع الاتحاد الأوروبي حيث كانت تربط أوكرانيا وروسيا العديد من الاتفاقيات. فحرك الغرب الثورة الملونة وأطلق العنان لليمين المتطرف الذي أوغل قتلا في الرافضين لقضية الانقلاب. وقامت مظاهرات كبيرة في كل من القرم ودونيتسك ولوغانسك، تمت مواجهتها بعنف لم يلق طريقه إلى الإعلام الموضوعي جدا، والذي ينطبق عليه “من دفع للزمار؟” (ف. س. سوندرز).أما كونها دولة ديمقراطية فنقول: عاشت الأسامي. أوكرانيا دولة فاشستية بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذ تعتبر معقلا لليمين المتطرف، الذي يشتغل بكامل الحرية، ويوجد فيها منذ 2013 ما يسمى برافيي سيكتور، وهو تجمع شبه عسكري لأحزاب يمينية، وكان مدعوما من طرف زيلينسكي، الذي أضحكني من سماه رجل دولة يقاتل إلى جانب شعبه. رجل لم يشتغل يوما واحدا موظفا في مقاطعة يسمى رجل دولة؟ جاء من عالم الكوميديا إلى الرئاسة في سياق موسوم ب”الربيع”، الذي اصطدمت فيه أمريكا وروسيا ولم تحقق الأولى رغباتها في الجغرافيا البعيدة فقررت تحقيق نتائج في الجغرافيا القريبة.ربما من سوء حظ أوكرانيا أنها مجاورة لدولة عظمى، وبالتالي لابد أن تكون في مستوى يليق بالجوار. لأن الاتفاقيات الأمنية التي كانت تعتزم إبرامها مع الغرب تعني شيئا واحدا: وضع فتيل التهديد بجوار روسيا مباشرة والاشتغال على تفتيتها، وهو ما فهمه بوتين بحسه الاستخباراتي، وسنجد من يقول إنه مغامر وتم توريطه.وعلى ذكر المغامرة هدد بوتين باستعمال السلاح النووي. وارتفعت الأصوات منددة بهذا الجنون. من يقول هذا الكلام لا يفهم شيئا في معنى الحرب. في التسلح هناك طبقات كثيرة. هل استنفذت روسيا كل طبقاتها التسليحية في بضعة أيام حتى تصل إلى السلاح الانتحاري الذي يستحيل استعماله؟ هو ليس تهديدا. من يعرف روسيا فإنها قوة متقدمة وذات ترسانة أسلحة متطورة كثيرا وبالتالي هذا الأمر رسالة سياسية لـ”إمبراطورية الكذب”. مفاد هذه الرسالة هي أن بوتين أراد أن يقول للغرب اسمعوا جيدا: روسا قوة عظمى. ولهذا لا خوف من استعمال هذا السلاح.استمعت إلى كلمة مندوب أوكرانيا في الأمم المتحدة ففهمت لماذا تورطت أوكرانيا ونظامها الوظيفي في استراتيجية استفزاز روسيا، التي يمارسها الغرب منذ عقدين من الزمان. أي منذ الصعود الجديد للنظرية الأوراسية. تضمنت كلماته سرديات بليدة عن جندي روسي يراسل والدته التي كانت تعتقد أنه في القرم فأخبرها أنهم أرسلوه إلى أوكرانيا. تم تحدث عن قتل الأطفال والنساء من قبل الجيش الروسي. هذا جيش له هدف هو إصلاح التاريخ وتفادي انتقام الجغرافية. جيش يغض الطرف عن الأهداف العسكرية التي يعرفها بدقة ويقتل الأطفال. القصة نفسها تم استعمالها في سوريا. تم ختم بسؤال وجهه لزملائه: من صوت على انضمام روسيا إلى الأمم المتحدة فليرفع يده. مضحك. روسيا ورثت باتفاق حول تفكك الاتحاد السوفياتي كل ما يعود إليه بما في ذلك ديونه التي أدتها موسكو بالملايير بما فيها دون أوكرانيا.وعلى ذكر قتل الأطفال فإن عنوان المغالطة هو الموضوع الإنساني. باسم الإنسانية كان على بوتين أن يسلم روسيا للغرب. وباسم الإنسانية كان عليه أن يترك الحلف الأطلسي يتمدد كما يشاء.لكن على هذا الغرب أن يقنعنا مرة واحدة بأنه صادق في إدعاءاته الإنسانية. وعلى مسانديه أن يقنعونا مرة واحدة أنهم صادقون. صحيفة دولية صدرت اليوم وفي صفحتها الأولى صورة لشخص قالت إنه يسلم بنتيه إلى سيدة على الحدود مع بولونيا. في مشهد مؤثر جدا. الصحيفة تمولها دولة تقتل كل عشرة دقائق طفلا يمنيا. الإعلام العربي الذي انخرط في المعركة ضد سوريا وساند الإرهابيين هو نفسه اليوم الذي يقف إلى جانب الفاشيست الأوكرانيين. كانت أول مكالمة أجراها زيلينسكي خارج أوروبا بعد الضربات الروسية مع حاكم عربي متخصص في تمويل الحركات الإرهابية. ماذا سيقدم له؟ طبيعي أنه سيدعمه بالموارد البشرية الجهادية. يعني سنرى تحالفا بين الإرهابيين واليمين المتطرف في معركة ضد الجيش الروسي. وهذا ما نفهمه من تكوين فيلق المتطوعين الأجانب بالجيش الأوكراني. عندما قرر الغرب توريد الإرهابيين إلى سوريا أنشأ جبهة النصرة التي ضمت “المتطوعين الأجانب”. وسيكتمل الحلف بدعم “الكيان المؤقت” الذي لن ينسى لروسيا وقوفها إلى جانب سوريا، الذي يعني إفساد المشروع الذي كان مرسوما هناك، وظهر إسرائليون من أصل أوكراني يلبسون ثياب القتال كما تجند الإعلام الإسرائيلي لدعم أوكرانيا.الغرب الذي كان يهدد روسيا بالرد المزلزل أصبح اليوم يتحدث عن العقوبات. ويعرف الخبراء أن موسكو وضعت كل الاحتمالات أمام عينيها قبل أن تقدم على هذه الخطوة، ولم يبق أمامه سوى دعم الإرهابيين من جهاديين ويمين متطرف وتوسيع دائرة المتطوعين من أوروبا وغيرها، لكن نسيت أن الجيش الروسي كسب خبرات واسعة في سوريا في مجال محاربة الإرهاب.