في زمن صفقة القرن, والهرولة نحو التطبيع مع دولة الاحتلال, يستمد أي حديث اليوم عن التضامن مع الشعب الفلسطيني مصداقيته من الموقف السياسي والعملي من مقاومته اليومية لما يتعرض له أطفاله ونساؤه وشبابه وأسراه من مظالم وجرائم وعنف قاتل, فالشعب الفلسطيني يئس من التضامن اللفظي مع قضيته التي هي في البدء والمنتهى, قضية مقاومة شعب من أجل الوجود والبقاء.
إن للصمود الفلسطيني تاريخ في مواجهة الاستيطان والتهجير والتهويد.., وضد مختلف المشاريع السياسية والاتفاقات التي تنكرت للحقوق الفلسطينية بتبريرات لا منطقية تكافئ الجلاد على جرائمه, وتوهم الضحية بحل سياسي عادل, هو والسراب سواء. وكما أحبطت المقاومة تلك المشاريع والاتفاقات بالأمس, فإنها لامحالة ستسقط صفقة القرن المتداعية .. و”متحوراتها”.
إنها الحقيقة التي تتغافلها دول التطبيع العربية وهي تبشر بما سيعم أقطارها من خير عميم , وتعبيد لطريق السلام المنصف !! , إنه مرض ” إنكار الواقع”, وعمى “الأنانيات القطرية” المستخفة بما تشكله الطبيعة التوسعية العنصرية للكيان الصهيوني من خطر داهم على كل المنطقة العربية.
في هذا السياق, كان ع الله العروي قد كتب سنة 1969 (العدد 15 من مجلة أنفاس) ما يلي : “..والحقيقة أن هدف قادة إسرائيل ليس قطعا هو العيش في سلام، بل أن يفرضوا أنفسهم كقوة مسيطرة في الشرق الأوسط. وأكثر من ذلك أيضا أن ينتقموا من تقلبات التاريخ, والقول بعكس هذا معناه الحكم على الخصم من خلال ما يقول لا من خلال ما يفعل “., وما يفعله هذا ” الخصم”, العدو على أرض الواقع يندرج ضمن هدف أو استراتيجة تصفية القضية الفلسطينية بما هي قضية تحرر وطني , وحق مشروع في المقاومة بمختلف الأشكال لاستعادة حقه في الأرض, وهو حق تاريخي مشروع بمقتضى معطى أو ” قد ر” الجغرافيا , و التاريخ ” كمحكمة عليا للعالم” حيث يقران بأن إسرائيل كيان اغتصب أرضا ليست أرضه, وعمل , ومازال مدعوما بأمريكا والغرب على أن يكون فوق التاريخ , وفوق القانون الدولي والقرارات الأممية .
إن عقودا طويلة من المقاومة بمختلف أشكالها, والصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني , في الداخل والخارج , في الملاجئ والمخيمات والمنافي والمعتقلات.. لم تكسر ظهره, فرغم اتفاقات أوسلو السيئة الذكر, ومضاعفاتها السلبية على وحدة النضال الفلسطيني, فهاهي اليوم (المقاومة) تفضح هشاشة الكيان الصهيوني, وتحرج من مدوا له اليد في “كرنفالات التطبيع” , ومن سخروا أقلامهم الرخيصة, وإعلامهم البئيس للطعن في المقاومة, ومحاولة تجريد القضية الفلسطينية من جوهرها التحرري الوجودي, ومن هويتها كقضية عربية وإسلامية وإنسانية. ومن المفارقات أن يتم ذلك باسم التعايش والتسامح المفترى عليهما كقيمتين أخلاقيتين راقيتين, تتعارضان جذريا مع كيان مؤسس على العنصرية والعدوان .. وعليه, فإن أية مقاربة دولية وعربية لراهن القضية الفلسطينية تقصي مقاومة الشعب الفلسطيني في “فلسطين الواحدة”, تضع نفسها بوعي أو بدونه, في صف خصوم وأعداء عدالة القضية الفلسطينية, فالشعب الفلسطيني هو الفاعل الرئيسي غير القابل للتجاوز, أو الرضوخ لاتفاقات تفريطية في حقوقه, مهما حاول الكثيرون, ومنهم “سلطته الوطنية,” تزيينها, وتعداد مكاسبها الوهمية . وإذا كان من درس ينبغي استخلاصه من تاريخ الصمود الفلسطيني, فهو أن الشعب الفلسطيني قادر, وسط الرياح العاصفة, على إفشال مشاريع التسويات التي تستهدف حقوقه التاريخية الثابتة, غير القابلة للتجزيء, وعلى تحدي عدوانية الآلة العسكرية الصهيونية , مادام موجودا,.
وكما كتب إدوارد سعيد “لا يهم العدوان الدائم للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية على كل ما تمثله فلسطين , فوجودنا وحده أحبط , بل قوض المشروع الإسرائيلي الهادف إلى إقصائنا بصفة نهائية”.. إنه درس التاريخ المطلوب استيعابه وتمثله وترجمته إلى فعل سياسي , دبلوماسي داعم للصمود الفلسطيني الميداني اليومي, بدل التمادي في الهرولة نحو التطبيع, و”الهيام” فيه بمذلة … (الاستشهادان مأخوذان من كتاب الشاعر محمد بنيس “فلسطين – ذاكرة المقاومات”)