النظام الجزائري، وتوابعه من برلمانه، خارجيته وإعلامه، وزائدته الانفصالية: “البوليساريو… ذلك النظام، في التعاطي مع هزائمه الديبلوماسية المتلاحقة، تعود منذ سنوات، بل أدمن إلقاء “كوكتيل” بارد من كلمات، فاقدة الصلاحية، من نوع “الاستغراب”، “الاستنكار”، “الشجب” و”الإدانة”، مع التوابل الضرورية المرافقة لتلك الكلمات مثل الشديد، بشدة وبقوة… إلقاء ذلك الكوكتيل على الفاعلين في المجرى الفعلي والهادر للتاريخ… المجرى الذي تحركه الدولة المغربية بتبصرها الاستراتيجي وحسها التاريخي وواقعية تدبيرها للمنازعة الجزائرية في مغربية الصحراء، وما تولد عنها من تأزيم جزائري للعلاقات المغربية الجزائرية بتأثيراته على المنطقة المغاربية وعلى صلاتها بإفريقيا وبالضفة الشمالية لحوض المتوسط.
القيادة الجزائرية مسكونة بأوهام وتهيؤات لا يمكن إلا أن تنتج خيبات قصور في التعاطي مع أوضاع الجزائر الداخلية أولا، أو بدأ… ولا يمكن أن تكون أحسن حالا ولا أنجع في تدبير علاقات الجزائر الخارجية. إنه نظام لا يبالي بشرعيته الداخلية ولا يكترث لمصداقيته الخارجية… نظام كيفه جنرالات الجزائر على تغذية مصالحهم بتشحيم أرصدتهم البنكية.
ذلك هو حاله منذ عقود وإلى اليوم… بدليل العدد الهائل من القيادات العسكرية والمدنية التي تم شفطها من النظام وألقى بها في السجون ولسنوات… من وزراء أولين؛ وزراء؛ مدراء أجهزة أمنية؛ محافظين ومدراء مؤسسات اقتصادية عمومية… بتهم الفساد والإثراء غير المشروع… وقد طحنتهم كاسحة التنافس على الإفادة من خيرات البلاد… الكاسحة التي يقودها من كانوا مشاركين في الاغتراف من مرق البلاد… إنه نظام غير مهيأ للممارسة بمنطق الدولة ومقتضياتها وبالأحرى بعقلها وباستراتيجيتها التاريخية على المدى البعيد وتمرحلاتها… إنه يجيد فقط، حساب أرياح مكوناته، ويضبط توازناتها، على المدى القريب وحده. نظام تمكنه إدامة رعايته للحركة الانفصالية ضد المغرب، من تمركز الجيش في التدبير السياسي للجزائر… وهو ما يؤمن للجنرالات التكسب المريح بتغطيته من تحكمهم الأمني والسياسي بالبلاد.
نزاع الصحراء المغربية بالنسبة لجنرالات النظام العسكري الجزائري مسألة وجود، “لخصوبة” عائداتها عليهم ولأنها منشط حيوي لارتفاع منسوب العداء للمغرب لديهم… وذلك ما يعجزهم عن النظر السياسي الواقعي في تدبير شؤون الدولة الداخلية وتفاعلاتها مع محيطها الخارجي.
والحال أن الواقعية هي المولد الأساس للمردودية السياسية… والممارسة بالواقعية السياسية تحتاج إلى دولة… دولة تعبر عن حساسات، متطلبات وطموحات شعب، بكل فئات الشعب. الدولة الأمة كما هي معرفة في الفكر السياسي، التعريف الذي لا تنضبط له مواصفات النظام الجزائري.
المغرب دولة، تنطق بحروف ونبرات مفخمة… دولة وطنية، أنتجها وطن عبر تاريخ طويل وعميق… وصانته بوطنيتها وتاريخيتها… دولة لها ملك، قائد تاريخي يقودها بنفس استراتيجي متبصر لمصلحة نماء وتقدم المغرب وهو موحد أرضا وشعبا… دولة بروافع لرؤى استراتيجية، وهي سياسات على مدى بعيد يوجهها قائد البلاد، تملكتها مؤسسات قوية وفاعلة ويبدع في تنفيذها رجال ونساء بحس وطني وجدارة عملية.
الواقعية السياسية المتسمة بالانطلاق من الاختيارات الوطنية المبدئية والاستراتيجية، لاعتماد المرونة في التوصل إليها وإنجازها، مارسها المغرب منهجية دولة… وأنتجت ضمن غزارة ما أنتجته… ذلك الإقدام السياسي التاريخي الرافع لمقترح الحكم الذاتي.
مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الصحراوية المغربية، سنة 2007، الذي أرسى في النزاع حول الصحراء المغربية، جسرا متينا نحو الحل السلمي. جلالة الملك بذلك المقترح فتح ممرا معبدا بالكرامة، للجزائر تسلكه للتخلص من تحمل أعباء مكابرة بلا أفق في رعاة حركة انفصالية بلا مستقبل… وجلالته أطلق ذلك المقترح من حرص وطني ديمقراطي، يؤمن وحدة المغرب أرضا وشعبا ويخصب التعاطي الديمقراطي مع الشأن العام وطنيا وجهويا، سياسيا واجتماعيا. مقترح الحكم الذاتي من طبيعة أفقية تشمل المغرب ككل وإن كان موجه للأقاليم الصحراوية المغربية… لأنه يصدر عن تحول نوعي في حكامة الدولة، يعزز مفعولها السيادي ويقلص من مركزيتها لصالح تنمية المشاركة الشعبية في تملك الشأن التنموي الجهوية.
لسنوات، مقترح الحكم الذاتي يتحرك في ملف النزاع حول الصحراء المغربية… في كل تدافع وترافع… في كل تفاوض أو تعارض… في كل اختلاف أو اتفاق… داخله أو حوله… لسنوات والمقترح في وضع “الصامد وسط الإعصار”… إلى اليوم، هذا اليوم، الذي نشهد فيه مد مقترح الحكم الذاتي واكتساحه لأوسع مساحات التعاطي السياسي الدولي مع النزاع… المبادرة التاريخية تنمو بصدقيتها، بواقعيتها، ببلاغتها وبحوافزها إلى المضي نحو المستقبل.
عنيت إلى اليوم… يوم الحدث الإسباني الذي انبثق في اليوميات الطويلة، للمنازعة الجزائرية حول الصحراء المغربية… انبثق تحولا جوهريا في المنازعة، وإسبانيا تتبنى، جملة وتفصيلا، مقترح الحكم الذاتي، “باعتباره الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف” … انتهى الكلام… أو ينبغي أن ينتهي ذلك الكلام الذي أنتجه النظام الجزائري لعدة عقود… سايرته فيه أو جاملته فيه أو قايضته به مصالحها دول ومنها الدولة الإسبانية.
قلت “تحولا جوهريا وعلي أن أضيف جغرافيا”، وهو مهم جدا، لأن إسبانيا بهذا الإقرار المنصف لعدالة القضية الوطنية المغربية تبصم بالعشرة على حقيقة جغرافية الصحراء المغربية… أما تاريخها فهو محفوظ وراسخ ومنه انطلقت مبادرة الحكم الذاتي… وكل هذا الصراع كان هدف النظام الجزائري من افتعاله وإطالته وتأزيمه هو اختلاق تاريخ مصطنع ومزيف لجغرافية الصحراء المغربية… الأصلية والأصيلة.
الواقعية السياسية والإصلاحية المغربية، لعموم المغرب وبمنجزاتها التاريخية، أفرزت مقترح الحكم الذاتي مسلكا واقعيا للحل السلمي للنزاع حول وحدتنا الوطنية… تابع العالم التطورات الهامة في أوضاع ومقدرات وما يعد به المغرب… فتبوء المغرب موقعا مميزا في وعود التقدم، التعاون والسلم في العالم… وكان مقترح الحكم الذاتي عنوان المغرب والطريق السريع المؤدية إليه… باعتباره يختزل وضع المغرب الجديد، من حيث مرونته وانفتاحه ومن حيث إصراره وصرامته… وباعتباره مشرط استئصال ورم انفصالي في منطقة فاقدة للمناعة الأمنية والسياسية، وليست العصابات المسلحة هي ما ينقصها…
قرارات مجلس الأمن، في الأمم المتحدة، لسنوات وهي “تختلس” النظر في مضمون مقترح الحكم الذاتي، وتقطف منه جزئيات معانيه… إلى قرار أكتوبر 2021 الأخير، الذي كتب بمداد المقترح وتبنى مراميه. وصدر القرار بموافقة أربعة من حملة “الفيتو” وامتناع واحد… لا أحد معترض… هذا يعني أن المرجعية للأمم المتحدة في التعاطي مع “النزاع” تتبنى مفردات ومرامي مقترح الحكم الذاتي.
إسبانيا “انتظرت” أو لنقل، محبة، “تأملت” مرور المعترفين بعدالة الحرص المغربي على وحدته… الولايات المتحدة الأمريكية، كل دول الخليج العربي، العديد من الدول الإفريقية، العديد من دول أمريكا اللاتينية، دول أوروبا الوسطى… فرنسا وألمانيا… في هذه الأثناء كانت دول إسبانيا، وهي تلاحظ أفواج “الحجيج” الدولي إلى أقاليمنا الصحراوية وإلى قضيتها… كانت تداري صراعات وتوجهات داخلها في التعامل مع المغرب… إلى أن انتصر التوجه الواقعي المتحسس لمصلحة اسبانيا في ترسيخ وتفعيل علاقاتها مع المغرب، القوي بوحدة أرضه وشعبه والقوي بمنجزاته الإصلاحية والتنموية… وكان أن أعلنت الحكومة الإسبانية عن تموقعها في “النزاع” قوة دفع إيجابية لحله سلميا بمقترح الحكم الذاتي، ضمن وحدة التراب المغربي، لإدارة الأقاليم الصحراوية.
السياسة الوطنية، والواقعية والمسكونة بكسب التاريخ، أنتجت مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء المغربية… وتقدمت المبادرة فتح طريق الحل السلمي للنزاع حول الصحراء المغربية… واليوم المبادرة الإسبانية، الواقعية المستحضرة لعبر التاريخ والمستشرفة لنداءات المستقبل في العلاقات المغربية الإسبانية… تلك المبادرة تؤمن المسار السلمي لحل النزاع بدفعة قوية… قريبا ستعززها إيطاليا وبريطانيا ودول أخرى من إفريقيا وأمريكا اللاتينية… ليتعزز المنعطف النوعي في مسار قضيتنا الوطنية، في سياق هذا التحول الجيواستراتيجي الذي يعتري العالم، والذي يتفاعل معه المغرب بذكاء وحكمة وواقعية سياسية وبحس تاريخي، ويتموقع فيه فاعلا ومؤثرا.
المعضلة، هي هذا النظام الجزائري المفتقد لمميزات ومقدرات إدارة دولة… وضمنها وربما أولها القدرة على القراءة الواقعية للوقائع والأحداث الجارية داخل البلاد التي يدبرها وخارجها.
أعود لأقول إن أهم ما تفتقد الجزائر هي دولة لتدبير شؤونها… الجنرالات، هم لفيف، قواعد الدولة لا تناسبهم، وهم في تحكمهم “يعمهون”… كل ما يجري أمامهم من تتابع الدعم الدولي للحق المغربي في وحدته الوطنية… كل هذا، لا يدفعهم لملاحظة هذه التغيرات الاستراتيجية، ومناصرة المغرب ضمنها، في هذا المحيط الجغرافي، والتي تستوجب منهم مواكبتها إيجابيا… لكنه نظام لا يبالي… يقود الجزائر إلى المزيد من العزلة والتدهور في أوضاعها… ولعله يثق في المتوفر له من مخزون كلمات الإدانة والاستغراب. وتوزيع الاتهام بالخيانة على كل من رأى في مقترح “الحكم الذاتي” الأساس الجدي والواقعي لحل النزاع حول الصحراء المغربية… ذلك الكوكتيل من الكلام المعبر عن حنق المهزوم، يوزعه النظام الجزائري على الأمم المتحدة والدول العظمى والمتوسطة والصغرى واللائحة مرشحة للاتساع… إنه نظام يتوغل في عزلة دولية لن يخرجه منها إلا تخلصه من عقدة المغرب وعداءه المزمن له… وشفاؤه من كابوس الحكم الذاتي، الذي يسحب منه مبرر سياساته… النزاع حول الصحراء المغربية… ولكن للأسف، لا مؤشرات على أنه سيتعظ ويتعقل ويمارس بثقافة الدولة… للأسف… لا أمل.