1ـ العقل الرقمي لا يفكر كما العقل الإنساني، هو يعمل فقط، ولكنه يعمل بقدرات فائقة للعقل البشري، أو إن شئنا هو العقل الذي يحوي في ذاته العقل البشري كله، واللوغوس الكوني الذي يختزل في جوفه عقل أو نظام الطبيعة. وبالرغم من كون العقل الرقمي نتاجا للفكر البشري، إلا أنه بقدرته الفائقة على العمل لا على التفكير، صار شرطا ضروريا لإمكان تجربة الفكر، فليس بإمكان الفكر اليوم إلا أن يفكر لا انطلاقا من معطى الحساسية وحسب، بل من معطى إدراك رقمي للحساسية. ومعناه أن العقل الرقمي اليوم هو الذي يملي قوانينه على تجربة الفكر. لقد كان الفكر الساذج واهما عندما تصور أن التقنية ستتحكم في الإنسان من خلال كائن آلي من صنعه، غير أنه أدرك اليوم أن ما يتحكم في تجربته ليس هو هذا الكائن الأسطوري المتشكل في مخيال الإنسان، وإنما هو هذا العقل الرقمي الذي صار يشكل عنصرا مكونا لماهية وجوده في العالم، بحيث أن ماهية وجوده تكاد لا تنفصل عن هذه الماهية الرقمية التي صار مرغما على التفكير من خلالها في اختبار تجربة وجوده، و في اختيار نمط عيشه.
2 ـ
الجسد وحده قادر على أن يتشكل رقميا، ما دام أن طبيعته ليست فيزيقية محضة ولا هي روحية محضة، بل هي من طبيعة رقمية بالمعنى الذي يفيد بأن الفيزيقي والروحي هما معا محض احتمال رقمي، وأنهما معا ليسا موجودين مستقلين بذاتيهما، بقدر ما هما وجهتا نظر للإنسان عن الشيء عينه الذي هو الجسد، والذي يشهد بتحوله الرقمي على نهاية زمان بلغ فيه مع الإنسان أقصى كمالات إشباع الوجود… وهذا معناه أن الكائن الإنساني، قد انتهى زمانه، كما عبرنا عن ذلك في أطروحتنا لعام 2001. أي أن زمان التاريخ بما هو إشباع للرغبة الأنثربولوجية للإنسان قد استنفد أغراضه، ليفسح المجال لزمن يجعل من الجسد المشبع تاريخيا و أنثربولوجيا عنصرا أساسيا في المعادلة الرقمية للوجود. (توضيح: الإنسان الذي جعل من نفسه وصيا على الجسد، انتهى زمانه، ليس بالمعنى الهيجلي- الكوجيفي ولا الفوكويامي، ولكن بمعنى أقرب من تصور سبينوزي مفاده أننا لا نستطيع معرفة ما يقدر عليه الجسد، وأن قدرة الجسد على التشكل تفوق كل الاحتمالات الممكنة وكل الممكنات المتماكنة أيضا).
3ـ
في أن الحدث إما أن يكون موضع إحاطة الفكر، أو يكون الفكر منطويا على الحدث. أعني أن الحدث: إما أن يكون محاطا بالفكر، بحيث يكون موضوعا له، ولهذا فهو حدث، لا لأنه يحدث كواقعة برانية خالصة، بل لكون حدوثه ينعكس لوعي متجسد، بالرغم من كونه غير حاصل فيه أو عنه. أو هو ما يحدث بمقتضى وعي الذات بواقعته البرانية، وليس بمقتضى محض وجوده البراني المحض، لأن ما قد يحدث خالصا في الوجود، بمقتضى برانية محضة ليس حدثا، كونه خارج العني، بما هو معنى لحدث معاين من قبل الفكر. وهكذا يكون كل ما يحصل في الطبيعة من أحوال، أحداثا لا لأنها كذلك، بل لأنها موضع تفكير مساوق يحيط بالحدث. ولو افترضنا أن العالم خال من فكر متجسد لا يقابل العالم، بل يوجد في علاقة معه، بالمعنى الميرلوبونتي، لما كان ثمة عالم أصلا، كون العالم عينه فكرا بيجسديا، أو شكلا بيذاتيا لكينونة وعي متجسد، ولما كان ثمة شيء نسميه حدثا، وإنما ثمة شيء ما على الإطلاق، ما دام هذا الشيء خارج أي فكر يساوقه ويحيط به، بصفته موضوعا للفكر. لهذا فكل ما يحصل في الطبيعة معبرا عن أحوالها، مما هو خارج عن سيطرة الإنسان، هو حدث بالفعل لا لأنه حصل في الطبيعة، بالرغم من كونها هي علته وأساس حصوله، بل لأن حصوله هو محل إحاطة الفكر. أو أن يكون الفكر منطويا على الحدث، لأنه حاصل عن فكرة للحدث، شأن كل الأحداث البشرية، التي لم تنتج في مجمل الطبيعة بعامة، بقدر ما تنتج في طبيعة فكر متجسد بخاصة، أي لفكر لا يكتفي بالإحاطة بالحدث، بل يبتكر الحدث كفن حياة وكتاريخ و مصير…
4 ـ
في إيطيقا العالم الرقمي؛ ليست الإيطيقا من الظهور في شيء، بل منشؤها المسئولية التي في ذواتنا، إذ أن المسئولية جوانية وبدون مقابل، لأنها تنتسب للضمير، أي لما يحب أن يتخفى لا من أجل ذاته، بل من أجل آخر يناديه؛ ولذلك فهي لا تحب أن تظهر في ترائي العلاقة البيذاتية، أو في مسئولية زائفة تنكشف كفعل ليست غايته إظهار الفعل الأخلاقي، بقدر ما تكون غايته الانكشاف في مرآة العالم الرقمي، من حيث هو وجود بمقابل معنوي، أو مادي صرف، من خلال الرفع من نسب المشاهدة الفائقة والترويج الواسع؛ هذا من جهة الإيطيقا، أما من جهة العالم الرقمي، فإن الأمر قد يختلف بكيفية ما، وذلك لأن العالم الرقمي لا يخلو من فضيلة، إذ هو العالم المرئي الوحيد الذي له لديه قدرة فائقة على كشف نداء المسئولية إلى العالم برمته، بمعنى أنه هو الوحيد القادر على توسيع مجال المسئولية إلى أقصى حد، بحيث أنها تصير شأنا عاما كونيا، كونه قادرا على أن ينقل حادثا ما من موقع هامشي، أو من أطراف الكون النائية، إلى مركز الكون، أي إلى مجاله المرئي الذي ينعكس في وجه العالم كله كنداء، وليس كمجرد ظهور. لذلك لولا العالم الرقمي لتهاوت قضية “ريان” على سبيل المثال لا الحصر ، إلى قاع العدم، حيث اللامسئولية العمياء هي قدر وجود بلا معاينة تكشف مأساة كائن هش معزول، في عالم أعزل بلا عناية وبلا رعاية.
5 ـ
ليس ثمة شيء يعوق السرعة سوى التسرع، ولا شيء يحول دون البطء سوى الاستبطاء، لذلك كانت السرعة حركة قصوى، وكان البطء كذلك سرعة حركة دنيا؛ ومعناه أن السرعة والبطء هما الشيء ذاته، مع فارق درجة السرعة وحسب. غير أن التسرع والاستبطاء ليسا من السرعة ولا البطء في شيء، بل هما ينتسبان لإرادتي قوة مختلفتين، لا تكمنان في شيء براني بقدر ما تكمنان في كائن بشري ما، سواء كان من نوع متسرع لا يستطيع كبح جماح الانفعال بالسرعة، فلا يرقى بذاته إلى السرعة القصوى حيث يبلغ كمال الوجود، أي أن حركته تكون أشبه بحركة قذف سريع لا يبلغ اكتمال اللذة أو أنه يبلغ فقط الإشباع الناقص، ما دام هذا الإشباع حاصلا في رغبة أحادية، من غير حصوله في المرغوب فيه، بوصفه أيضا ذاتا راغبة، وليس فقط مرغوبة؛ أو كان من نوع متباطئ لا يستطيع كبح نزوعه لا نحو حركة البطء، بل نحو حركة الزمان برمتها، إلى حد كونه يغدو عاجزا تماما عن الحركة. والحال أن بلوغ كمال أعظم للسرعة، لا يقتضي منا التسرع بقدر ما يقتضي منا استيعاب حكمة البطء كاقتدار على كبح التسرع فينا، لبلوغ أقصى سرعة ممكنة للذات. إن البطء بهذا المعنى ليس نقيضا للسرعة، لأنه لا يستهدف حركة السرعة أو شدتها، بقدر ما يستهدف الحيلولة دون وقوع الكائن في تسرع يقصيه تماما عن حركة السرعة القصوى، أي عن الزمان والمصير.