1 ـ التبرير أعدل قسمة بين الأفعال وردود الأفعال البشرية
ولأن الأفعال وردود الأفعال البشرية متلازمة، ليس لأنها تحدث دفعة واحدة، وفي اللحظة عينها، بل لأنها تحدث بالتآثر أي بما يحدثه وقع الفعل في الغير من تأثير، وبما يصدره الغير بفعل التأثر من رد الفعل، فإن التبرير دائما هو الوسيط بينهما، كونه يعبر عن موقف كل منهما. إذ أن كل منهما لا يوجدان في منطقة الحسم، فالحسم لا يكون إلا في نهاية الصراع. وذلك لأن لحظة الصراع بين القوى المتصارعة لا يسود فيها سوى التبرير ولا شيء غير ذلك، وكل تبرير هو تعبير عن أحقية قبلية تسوغ لكلا الطرفين مشروعية ما يصدر عنهما من فعل أو رد فعل. لهذا فالإنسان كائن تبريري، ليس لأنه واع بأفعاله ولا هو واع بردود الأفعال، بل لأن الأفعال وردودها في كثير من حالات وجوده تسبق وعيه. أولكأنه يتصرف بطبيعة عفوية تسبق طبيعته العاقلة، بحيث أن فعله ليس فعلا واعيا بقدر ماهو انفعال، وبحيث أن رد فعل الغير ليس بدوره إلا انفعالا عكسيا لا غير؛ إذ يستوي التبرير لكليهما، ويكون أعدل قسمة بينهما.
2 ـ الذات مأوى الحجب والإخفاء،
أما الوجه فهو مأوى الكشف والتجلي؛ غير أن المفارقة، ليست كما يبدو على هذا النحو، بل هي على نحو مغاير؛ حيث أن الذات بقدر ما تحجب الأسرار، فإنها تفشيها، وحيث أن الوجه بقدر ما هو كشف وتجل، فإنه في ذات الآن قناع مرئي؛ إذ أن ما ينكشف فيه ليس من ماهية الكشف عينه، ولا ينتسب للذات مباشرة، بل هو من ماهيةالوجه. لذلك لا يكشف الوجه عن الذات تماما، وإنما يكشف عن انعكاس الذات في قناع الوجه. لهذا من طبيعة الوجه أن يتجلى في حركة مزدوجة، فهو ينكشف كقناع مرئي له قدرة على الإخفاء، كما يتقنع كوجه له قدرة على الكشف والتجلي. أما الذات فتراوح مكانها بين هذا الخفاء وهذا التجلي داخل الوجه الذي لا تستطيع أن تتخطاه.
3 ـ بعض الكتب تقرأها وتعيد قراءتها،
شأن الكتب العظيمة الكبرى لكبار الفلاسفة والمفكرين والأدباء، وبعض الكتب تقرأها ولا تفكر في إعادة قراءتها، إلا إذا دعت إلى ذلك الضرورة المنهجية، وبعض الكتب تقرأها لا لإنك ترغب في ذلك، بل لأنك وقعت تحت تأثير الترويج الإعلامي الذي رافق هذا الكتاب. مؤخرا انتهيت من قراءة كتاب يتناول نظام التفاهة، وحاولت جهد الإمكان أن أعثر على استشكال مفهومي يطرحه هذا الكتاب على غرار كبار الفلاسفة و صغارهم أيضا، كماحاولت جهد الإمكان أن أقبض على مفهوم متماسك لما يسميه نظام التفاهة، ولكن دون جدوى. ما وجدته بالفعل في هذآ الكتاب هو كميات وافرة من المعلومات والاستشهادات التي تتقاطر من كل اتجاه. علاوة على خطاب ممزوج بالحسرة والشكوى على غياب التأصيل والأصالة. والحال أن ما يفتقده صاحب هذا الكتاب الذي تظهره وسائل الإعلام كفيلسوف، هو هذه الأصالة التي يدعي فقدانها. كتابه يخلو تماما من التأصيل النظري، ومن الرصانة الفلسفية. وشتان ما بين نقد الفلاسفة الكبار للتفاهة، وما بين نقد تافه للتفاهة. الخلاصة أنني بعد قراءتي لهذا الكتاب الذي تم الترويج له على أوسع نطاق، لم أعثر على مفهوم متناسق وأصيل حول القضية التي يطرحها. ويبدو لي ان صاحب هذا الكتاب يناقش نظام التقاهة بكيفية تافهة. والحال أن هذا ليس كتابا نقديا، كونه خلوا من نقد يستند إلى تأصيل فلسفي رصين. إنه في رأيي كتاب تشك وليس كتاب شك، كتاب تحسر وليس كتاب دهشة، كتاب ثرثرة وضجيج وليس كتاب حكمة، كتاب رأي وليس كتاب فكر. هذا عزيزاتي أعزائي مجرد رأي فقط، وقد يكون رأيي هذا زائغا على اللزوم، وإن كان كذلك فمعذرة.
4 ـ هل العالم الرقمي عالم براني مستقل تماما بالنسبة لنا؟
أرى أن هذا العالم الذي نحن في اتصال به مباشرة، وليس في تواصل معه إلا من خلال ذوات أخرى، بوصفها كائنات متصلة به -تواصلية مع آخرين، ليس شيئا برانيا، لأنه لا يمتلك صفة وجود مستقل عن الذوات المشتركة التي تشكل كيانه على أرضية آلية. إنه على يبدو على الضد من العالم الواقعي الذي تنتمي إليه الذي تتشكل فيه بنية أجسادنا، ليس برانيا عن ذواتنا، إنه يقع ضمن المجال الخاص لجوانيتنا البيذاتية، وبالتالي فهو يتشكل منا وفينا عبر الوساطة الآلية الذكية، وبالتالي فهو يتشكل رقميا عبر الذوات المتصلة، لسبب بسيط أن وجوده متعلق بنا لا بذاته، ولأن ماهيته لا تنطوي على وجوده، وإلا كان جوهرا، أو علة ذاته. والحال أنه لا يوجد إلا في المجال المخصوص للذاتيات المتصلة بهذا العالم، والتي هي في تواصل مع آخرين يمتلكون نفس الخبرة الرقمية.
5 ـ لا يملك الفيلسوف أن يحلل الحروب التي لا ينفك العالم،
من جرنا إليها بالرغم من رغبتنا فيها أو رغبتنا عنها؛ فذلك من شأن المحللين التواصليين الذين تملأ أصواتهم وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والذين لا تعبر تحليلاتهم المتسرعة والمتسارعة عن حقيقة أي حرب يشاهدونها بقدر ما يعبرون عن آراء تتحكم فيها قواعد لعبة إعلامية تخوض حربا لا تقل ضرواة بالنظر إلى حجم خسائر العقل الإنساني الناتج عن التضليل والدعاية المدفوعة الأجر من كل الأطراف المتحاربة. وهذا معناه أن وجهة نظر الفيلسوف لحظة الحرب متجاوزة، ليس لأن وجهة نظر الفيلسوف غير وجيهة، بل لأنها لا تنسجم بتاتا مع المواجهة التواصلية، ذات الطابع الإنفعالي، ولا مع الأجيج المستعر للآراء المتقارعة هنا وهناك، ولا مع الضجيج المواكب لطبول الحرب التي تقرع في هذا الميدان أو ذاك. وهذا لا يعني بأن الفيلسوف ليس كائنا حربيا، ولكنه يعني أن الفيلسوف لا يختار حربا يكون بالرغم عنه طرفا فيها، فهو لا يكون طرفا إلا في حروب يخوضها العقل ضد نفسه أولا وضد سماسرة العقل، وضد الوصاية على العقل، وضد الدجل الكهنوتي بما في ذلك الدجل التكنولوجي؛ كما لا يعني بأن الفيلسوف كائن نزيه أو محايد فهو لا يدعي نزاهة ولا طهرانية فائقة للطبيعة البشرية، كما لا يدعي حيادا منافيا لطبيعة عالم لا يملك أن ينفصل عنه، مادام منتميا إليه. إن الفيلسوف لا يفكر في الحرب لأنه غير معني بها، وإنما يفكر فيها من حيث هي واقعة بشرية، لذلك فهو يفكر فيها بوصفها مدخلا لفهم الطبيعة الإنسانية، فالطبيعة الإنسانية وحدها قادرة على الحرب، وبوصفها شكلا من أشكال احتلال الجسد لرقعة الوجود، ومن حيث أن فضاء الوجود لا يتشكل في منآى عن الحرب والسلم، ومن حيث أن التاريخ هو نتيجة هذه المفارقات كلها.