فعلا وحقا ، وبنسبية عالية ، لسنا في حاجة أصلا ، في المرحلة الحالية ، إلى مثقفين في الأبراج بل إلى قيادات فكرية توجه الخط المرحلي السياسي الجاهز ، بمثابة التزامات دستورية وسياسية وحقوقية من قبل الدولة والحكومة ، بكلفة معتدلة عن تلك التي كانت أيام الرصاص ، فليس المطلوب فقط عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسانية وانما الأخطاء القاتلة والثمن الباهض / التضحيات والانتحار المجاني ، يستغله البعض حطبا لإعادة ترتيب المرحلة والمغانم . واذا كان لابد من تقييم فإنه ينبغي ان يستحضر التحولات الاجتماعية والوقائع المؤسساتية ، لا ان ينساق مع الاشخاص ، فعهد الشرعية التاريخية انقضى ، وعهد الكاريزما الوهمية ، في ظل تفشي صناعة الزعامات والقيادات في خمس سنوات دون معاناة وضريبة ، أيننا اذن من المقاربة السوسيولوجية لما يجري ، فبدل ان نرهق تركيزنا في التعليق غير المنتج لتشكيلة البرلمان والحكومة ، علينا تشخيص التشكيلة المجتمعية ، وتحديد الطبقة السائدة والطبقة المهيمنة ، ودور الدولة ، كجهاز وكطبقة ، فقد اعيانا الكسل الفكري الذي يختزل التحليل في ” تحكم المخزن ” وفي ما شابه ذاك من قوالب جاهزة تستعمل في كل مكان وزمان ، ولقد حان الوقت لمساءلة العهد الجديد ، على الأقل حول الوقع الاجتماعي لاعلان النوايا موضوع تقرير الخمسينية حول التنمية وكذا تقرير هيأة الانصاف والمصالحة ، ودور الخارج ” المالي ” والخارج ” الديني ، اقتصاد السوق والمد الوهابي ، شراكة في راس العقل الأمني المغربي ، ولعل ما يمكن تسجيله كمعاينة وتشخيص سريع ان الدولة والحكومات المتعاقبة تعاملت مع الطبقة الوسطى كفأر للتجربة بتوجيه من المؤسسات المالية الدولية …من التقويم الهيكلي الى تخفيض كتلة الأجور عبر الخوصصة وتقليص النفقات الإجتماعية والمغادرة الطوعية ؛ فكبرت الهوة بين الطبقة العليا وبين الطبقة الكادحة. …ولكن الخطير في الأمر أن الحكومة المغادرة كانت بالمطلق مستعدة لتخضع نفسها لأي تجريب ، مقابل بقائها في سدة تدبير الشأن الحكومي بعلة أنها تستمد شرعيتها من رضا الناخبين والملك والعالمين ، وحتى الحكومة الحالية ، برهنت ظرفية الطوارئ الصحية على أن الدولة هي وحدها القادرة على ضبط الأمور بقبضة من حديد ، فلا مجال لأي انفلات ، فلا الأحزاب قادرة على تأطير أطرها ومنخرطيها ، ولا حتى الأذرع النقابية أو الثقافية أو الدينية او الاجتماعية الشبيبية . والسبب أن كل الأحزمة الواقية تلاشت ، ناهيك عن كون أغلب المثقفين استقالوا أو انحازوا أو انضموا أو انخرطوا ، في التيه ؛ ولا مناص من التفكير واعادة النظر في ” واجب ” الاصطفاف . لكن ليس بتكرار نفس اسطوانة القطبية الثنائية ، بين قطبين أصوليين ، مخزنية وأخرى دينية . فحتى موقع الوسط لن يسمح لنا كقدماء يسار . غير أن الفضاء الذي قد يليق بنا هو الاصطفاف إلى جانب المعرفة وحب الحكمة والتنوير ، فهل نحن قادرون ؟
وموقعنا الطبيعي المفترض ايضا هو رد الاعتبار إلى الوطنية التي كانت تسكن روحنا ، فهل نحن مستوعبون ؟ و لقد انتهى عهد العمالة للخارج ، حتى الدولة نفسها ، استفادت من دروس الربيع العربي ، ولكن هل بمقدورنا كحقوقيين فرض ضمانات عدم تكرار مآسي الماضي ، بإقرار حكامة أمنية وأمن قضائي ؟ فهل بمقدورنا التصدي للمقاربة الأمنية بمقاربة قانونية وحقوقية تراعي السقف اللبرالي ، والذي لا يتعارض مبدئيا مع الإعتراف بالنضال الحقوقي كفعل إصلاحي؟
لا زال هناك عمل كثير ينتظر جميع الفاعلين السياسيين والحقوقيين ؛ وأول الخطو تحويل صراحنا و بياناتنا إلى أطروحات وعروض سياسية ، واقعية وقابلة للتطبيق ، و إلى استراتيجيةللنضال الديموقراطي ، تستقطب جميع الأحرار والشرفاء في صيغة جبهة عريضة يقودها السياسي بتأطير من الثقافي . ولأن الشرط الذاتي حاسم ، فمتى قمنا بإحصاء عدد الأطر الذين لا زال يحضنهم ” حزبنا ” وحينا وجامعاتنا وإعلامنا . لم تنته الحرب ولن تنتهي الجراح ولا الانتهاكات إلا بتمثل مطلب القطع مع الماضي ، ماضي سنوات الرصاص وماضي المغامرة وماضي القصاص . وبالنقاش الموضوعي النزيه والخالص من الشعبوية نستطيع استدراك ما فاتنا من وقت ضائع ، ومن تخلى عن قانون الجدل التاريخي غير معني بالمقال ، سيظل يمارس لعبة التكيف دون التحول ، يصارع الأشخاص بالأفكار والأفكار بالأشخاص ، فيكرر التاريخ نفسه في شكل جغرافيا التجريب والانتظارية .