كتبت ذة. خديجة السويـــدي : نظم مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، بشراكة مع شعبة اللغة العربية ندوة علمية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك حول موضوع “اللغة والهوية”، وذلك يوم الخميس 16 دجنبر 2021.
انطلقت أشغال الندوة في جلستها الافتتاحية برئاسة الأستاذة لطيفة البصير التي أعطت الكلمة في البداية إلى السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك الدكتور عبد القادر ڭنڭاي الذي أشاد بالمجهودات القيمة التي يبذلها مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية من أجل إعداد أنشطة متنوعة ومختلفة من حيث المواضيع والمضامين في مختلف المجالات الأدبية والفنية. وقد أشار في كلمته إلى الأهمية الكبيرة التي تحظى بها اللغة العربية بوصفها جزءا لا يتجزأ من هويتنا مؤكدا في السياق نفسه على ضرورة الاهتمام بها. أُعطيت الكلمة بعدها لمدير مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية الدكتور عبد اللطيف محفوظ الذي تقدم بخالص الشكر إلى السيد عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدكتور عبد القادر ڭنڭاي على دعمه ومساندته للمختبر طيلة السنوات الماضية مشيدا بأفضاله الكثيرة على ماستر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية الذي يرجع له الفضل الكبير في فتحه، وعلى مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية. انتقل الدكتور عبد اللطيف محفوظ، بعدها، إلى عنوان الندوة ليؤكد على راهنية موضوعها الذي قد يبدو لقارئه موضوعا تمت معالجته لمرات عديدة وكثيرة، لكنه رغم ذاك، يبقى موضوعا متجددا يقبل المقاربة والمعالجة من زوايا مختلفة ومتنوعة، لأنه موضوع تتقاطع فيه مجالات شتى؛ إذ يمكن معالجته ثقافيا وسرديا واجتماعيا وسياسيا وإيديولوجيا. ويرى الأستاذ عبد اللطيف محفوظ أن تجديد طرحه لموضوع اللغة والهوية يؤدي بالضرورة إلى تجديد فهمه وفهم أسئلته، مؤكدا في السياق نفسه على أن مفهوم الهوية ذاته ليس مفهوما ثابتا وإنما مفهوم يقبل التغير باستمرار، مشيرا في ختام كلمته الافتتاحية إلى أن موضوع الندوة “اللغة والهوية” موضوع مرتبط بشكل أساس بكل ما هو إنساني في اللغة وليس اللغة بوصفها أصواتا أو وعاء لتمرير المعاني، وإنما هي حامة لوعي إنساني وشحنة عاطفية خاصة.
أما في جلستها العلمية فقد انطلقت برئاسة الأستاذ عبد العلي معزوز الذي أدار مجرياتها بمنح الكلمة في البدء للأستاذ محمد حفيظ الذي عمل من خلال مداخلته المعنونة ب “الوضع اللغوي بالمغرب: بين لغات الهوية والهويات اللغوية” على تقييم الوضع اللغوي بشكل عام واللغة العربية بشكل خاص داخل الوطن المغربي معتبرا اللغة مجرد مكون من مكونات الهوية التي قد نعني بها الهوية الوطنية أو الهوية الثقافية أو الهوية الحضارية، وهذا المكون في نظره مكون أساس لأنه لا يمكن أن نتحدث عن هوية بدون لغة، ولكن اللغة ليست هي الهوية. ويرى أن مسألة تحديد الهوية تتدخل فيها مكونات أخرى عديدة غير اللغة، وقد فضل الأستاذ في هذا الصدد أن يقرأ شعار الندوة المتواجد على ملصقها “لغتي هويتي” بهذه القراءة التي تفيد أن اللغة مكون من مكونات الهوية وليست هي الهوية، معتبرا أنه تعبير مجازي يفيد “لغتي جزء من هويتي أو مكون من مكونات الهوية” وليس “لغتي هي هويتي”، لأنه – كما يقول – إذا اعتبرنا أن هناك تطابق بين اللغة والهوية فإننا في المغرب مثلا سنتحدث عن هويات وهذا سيطرح مشكلا، فلذلك يمكن أن نتحدث عن لغات الهوية لأنه في المغرب – كما نعلم – تتعايش لغات وطنية إلى جانب اللغات الأجنبية. وقد أشار الأستاذ محمد حفيظ في سياق حديثه عن اللغات الوطنية إلى أنه لا يقصد بها فقط البعد الرسمي أو اللغات الرسمية، وإنما اللغة العربية بتنويعاتها لأن اللغة العربية فيها مستويات مختلفة، واللغة الأمازيغية بلهجاتها إلى جانب اللغات الأجنبية الفرنسية والإنجليزية التي تدرس في المدارس والألمانية.. هذه دائما تظل لغات أجنبية لذلك يمكن أن نتحدث عن لغات الهوية بالجمع ولكن لا يمكن أن نقول أن هناك تطابق بين اللغة والهوية. وقد أدخل كذلك الحسانية لأنها متصل عربي، فعندما نتحدث عن العربية نتحدث عن متصل لغوي الذي يحيل إلى العربية التي نسميها في الدرس اللساني بالعربية المعيار.
توقف، بعدها، الأستاذ محمد حفيظ في مداخلته عند حالة تابعها هذه الأيام لها صلة بالموضوع الذي نتحدث عنه وهو “إشكال تمثل الهوية وتمثل اللغة” مشيرا إلى أن القضية التي أثارها المختبر في مستهل ورقته والمتعلقة بالهوية، قد خرجت من الحيز الأكاديمي الرصين لتنتقل إلى المجال الإعلامي والسياسي، وأصبحت موضوعا رائجا، ويتعلق الأمر بالتظاهرة الرياضية “كأس العرب”، التي احتج بعض ممثلي التيارات الأمازيغية على حملها للفظة العرب. وحسب المحاضر، فإن هذا الموقف يصلح لأن يقدم كعينة للكيفية التي يتمثل بها البعض اللغة أو الهوية في المغرب في علاقتها باللغة.
وبشأن هذه القضية المفتعلة، يرى الأستاذ محمد حفيظ من عناوين هذه البيانات ومن المواقف التي ترتبت عنها استعمالا متكررا للهوية واللغة كذلك، وإلى جانبهما الثقافة والتاريخ والحضارة، وهذا في نظره يعكس مشكل هوية قبل أن تكون مشكلة لغة. فالهويات – ونحن نعلم ذلك جيدا – كانت دائما موضوعا للصراعات أكثر من أن تكون موضوعا للحوارات وللتعايش، ففي كثير من الأحيان كانت من المبررات لحروب ونزاعات حيث ينتصب في ساحة العرب هويات دينية وإثنية وعرقية وطائفية وقبلية، وما يجري في عدد كبير من المناطق في العالم يواجه هذا الأمر. وتعليقا على هذه المواقف المترتبة عن التظاهرة الرياضية “كأس العرب” طرح الأستاذ محمد حفيظ مجموعة من الأسئلة من قبيل: هل الانتماء إلى العالم العربي ينفي عن الفرد انتماءه مثلا إلى الثقافة واللغة الأمازيغيتين؟، وهل كل من هو عربي أو ليس أو ضد أو هو أمازيغي؟، هل الأمازيغي وجد بالضرورة في تضاد وتعارض وخصومة مع العربي إذا افترضنا أنه يمكن أن نقيم هذا الفصل بين الأمازيغي والعربي؟، هل يمكن أن ننفي اليوم أن اللغة العربية هي لغة جزء كبير ممن يوضعون في هذا الإطار؛ أي في المعنى الإثني والعرقي من الأمازيغي؟ وغيرها من الأسئلة. يرى الأستاذ محمد حفيظ أن مفهوم العالم العربي لا يعني عرق، وكلمة عرب لا تحيل إلى العرق وإنما تحيل إلى ثقافة وإلى تاريخ وإلى جغرافيا، فعندما نتحدث عن العربية نتحدث عن لغة وليس عن عرق، ويعتبر التفكير في الأصول العرقية والقبلية عند استعمالنا لكلمة عربي إساءة للعربي ولفهم ما تعنيه هذه الكلمة حينما نصف بها بلدا أو منطقة. فالعربية لسان وليست عرقا أو جنسا ويستشهد هنا بعبارة مأثورة تحيل على هذا الفهم تقول “العربية اللسان”. إذن ففهم العربية والعروبة لا يرتبط بعرق أو جنس وإنما باللسان، والعربي هو الذي يتكلم العربية ومعلوم أن التكلم هو تواصل وتعايش وحوار. وبناء عليه فإن الموقف المناهض لاستعمال عبارة “كأس العرب” – كما يرى الأستاذ حفيظ – موقف غير مقبول وغير منطقي. وقد خلص الأستاذ حفيظ في مداخلته إلى نتيجة مفادها أن الانتماء لا يتحدد فقط بالجغرافيا لأن هذه الأخيرة ليست إلا مكون من مكونات الهوية، فليس التوزيع القاري كما هو اليوم هو المحدد الوحيد للانتماء داخل القارات، فالثقافة كذلك انتماء وهي كذلك مكون من مكونات الهوية، الدين كذلك انتماء وهو مكون من مكونات الهوية وليس هو الهوية، التاريخ كذلك هو انتماء ومكون من مكونات الهوية.. وأكد الأستاذ محمد حفيظ في ختام مداخلته على أن هناك مشاكل لغوية داخل النسق، ومشاكل لغوية خارج ذلك النسق ينبغي كذلك أن ننتبه إليها وأن نشتغل عليها.
ورأى الأستاذ عبد العلي معزوز في تعقيبه على مداخلة الأستاذ محمد حفيظ أننا عندما نتحدث عن اللغة والهوية هناك مخاطرة بأن نسقط في العرقية وفي الشوفينية وما شابهها من مشكلات، لذلك ينبغي أن ننتبه وأن نتناول هذا الموضوع بحذر وبمقاربة علمية أكثر من التوجه إلى الخلفيات العاطفية الملتصقة بهذا الموضوع حتى وإن كان الأمر صعبا.
أعطيت الكلمة بعد ذلك للأستاذ رشيد بن السيد الذي قارب في مداخلته المعنونة ب “الهوية بين اللغة والخطاب حول اللغة” الهوية في علاقتها باللغة والهوية في علاقتها بالخطاب حول اللغة”، منطلقا في ذلك من التأكيد على أن البحث في مسألة البعد الثقافي للغة أمر بالغ التعقيد خصوصا إذا انضاف إليه سؤال الهوية الذي يطرح إشكالات عدة على كل من يروم البحث فيه. ويرى الأستاذ رشيد بن السيد أن الصيغة الآتية: اللغة، الشعب، الهوية قد ساهمت في خلق الحدود والمسافات بين المجالات الترابية عند اندلاع الصراعات والنزاعات، وذلك للدفاع وتحصين المجالات والحدود، كما ساهمت اللغة في إذكاء روح الوطن وكذلك في زرع أو خلق وعي بالانتماء لهذه الأوطان، وذلك بفضل وجود روابط توحد بين مختلف مكونات هذه الشعوب، فاللغة إذن أحد أهم هذه الروابط؛ إذ هي ما يشكل المحددات الكبرى للهوية فلا هوية بدون لغة، فاللغة المُوحَّدة أو الموحِّدة لأفراد الجماعة هي ما يخلق التجانس ويضمن الهوية الجماعية. وهي الفكرة التي دافعت وتدافع عنها كل الدول رغم مكوناتها العرقية والإثنية المختلفة، فقد عملت كل الدول على توحيد نفسها ووضع لغة وطنية واحدة هي اللغة الرسمية لكل بلد، فاللغة في نظر الأستاذ رشيد بن السيد ليست مجرد أداة للتبليغ والتواصل وإنما تجسيد وتصوير لثقافة الجماعة وفكرها، ومرآة كذلك للبنيات الفكرية والثقافية السائدة في المجتمع، وقدرة تمكن من الإبداع وحمل المعرفة وإنتاجها، فبفضل مرآة اللغة المشتركة يتعرف كل واحد على الآخر ويتواصل معه، وهذا ما يساهم في خلق الانسجام والتناغم وبالتالي الهوية الجماعية.
رأى الأستاذ رشيد بن السيد أن الهوية الجماعية المبنية على اللغة تتأسس على عدة مفاهيم ذكر منها مفهوم البنوة أو آصرة البنوة الذي يجعل أعضاء المجتمع مسؤولين عن التراث اللغوي الذي يتم تناقله عبر الأجيال من الآباء إلى الأجداد، فبهذه الطريقة يتم – حسب الأستاذ رشيد بن السيد – بناء رمزية العبقرية عند كل شعب، والمسؤول – حسبه – عن بقاء هذه العبقرية واستمرارها هو اللغة، فهي التي تعمل على ربط الحاضر بالماضي وبالتراث وتخلق التضامن ما بين الأجيال؛ إذ يرى أن الهوية متجذرة في التاريخ وتجعل الأبناء متشبثين بآبائهم وأجدادهم ومرتبطين بهم وبتراثهم وتاريخهم، ومع ذلك فإن العلاقة بين اللغة والهوية تبقى هي علاقة معقدة وليست بالبساطة التي قد نعتقد لأنها ليست فقط مسألة استعمال وتداول لغوي بل لأنها مجال تتداخل فيه ثقافة ومجتمع وعادات وتقاليد وكل ما يشكل هوية الجماعة، فعلاقة الهوية والثقافة هي علاقة مركبة ومعقدة، وعليه يمكن تفسير الاختلاف البين بين ثقافات دول ناطقة بنفس اللغة. وقد أكد الأستاذ في سياق حديثة عن اللغة والخطاب أن اللغة ليست هي الخطاب، ودعا إلى ضرورة التمييز بين مستويين هما مستوى اللغة ومستوى الخطاب، مؤكدا في هذا الصدد على ترابط اللغة والخطاب باعتبارهما بانيين لبعضهما بعضا ولهوية وثقافة الجماعة فلا وجود للغة بدون خطاب ولا وجود للخطاب بدون لغة، فالخطاب هو الذي يمنح اللغة قوتها وقيمتها ومعانيها، وكذلك اللغة تمنحه وتكسبه وجوده وقوته. ومن أجل فهم كيفية تشكل هوية الجماعة – حسب الأستاذ – لا مناص من فهم أفعال اللغة والكلام وكيفية استعمال وتداول الكلمات داخل الخطاب، أي كيف تؤدي هذه الكلمات معانيها أو كيف يمكن أن نفهم المعنى من هذه الكلمات؟، وهنا يبرز – كما يرى الأستاذ رشيد بن السيد – مفهوم مهم هو مفهوم الكفاءة اللغوية ويرى أنه مفهوم يرتبط بشكل كبير بتأثير أنثروبولوجيا التواصل، وفلسفة اللغة وكذلك بالتداولية، فاللغة ترتبط بالشرط الاجتماعي أو بالأحرى بالشروط الاجتماعية والثقافية لإنتاج الأفكار وتداولها لذلك وجب التمييز بين أربعة مفاهيم أساسية هي الكفاءة الوضعياتية، والكفاءة الخطابية، والكفاءة الدلالية، ثم الكفاءة السوسيولسانية، فهذه الكفاءات تستوجب من كل فرد القدرة على أن يتواصل ويؤول حديثه وفق سياق وهوية مخاطبيه والغرض من حديثهم معه، هوية هؤلاء المخاطبين هي التي تحدد طبيعة الخطاب من حيث المكانة والدور والتراتبية الاجتماعية، كما أن هذه الكفاءات تفرض على كل فرد أن يكون قادرا على التحكم في استعمال كلماته ومفرداته وتنويع سياقات قوله بالاستناد إلى مختلف الإكراهات الاجتماعية والسياقات الثقافية التي تتحكم في التداول والتي تختلف من بيئة إلى أخرى، ومن مجتمع إلى آخر.
ختم الأستاذ رشيد السيد مداخلته باقتباس من كتاب الأستاذ عبد الفتاح كيليطو الموسوم ب “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية” يقول فيه: “لا نتحرّر من لغتنا التي تربّينا عليها في أسرتنا، والتي اعتدناها وألِفناها. فهي حتى وإن كانت في حالة كمون، فإنها تظل متربصة في المناسبات جميعها. على هذا النحو فإن كل متكلم يعبّر باللغات الأجنبية انطلاقا من لغته التي يمكن التعرّف عليها عن طريق نبرة شاذة أو لفظ أو تركيب، وأيضا عن طريق النظرة وسمات الوجه (أجل، لِلُغة وجه). مهما كانت الكلمات الأجنبية التي أتلفظها، تظل العربية مسموعة من خلالها كعلامة لا تَمّحي. أتكلم اللغات جميعها، لكن بالعربية، لست أنا صاحب هذه القولة الجميلة، لست صاحبها بالتمام. فهي اقتباس معدل لمقطع من يوميات كافكا الذي يورد هو بدوره قول فنانة من براغ: «أترون.. إنني أتكلم اللغات جميعها، لكن بالييديش«.
عقب الأستاذ عبد العلي معزوز رئيس الجلسة العلمية على مداخلة الأستاذ رشيد بن السيد قائلا أنه نصص على أن اللغة شيء والخطاب حول اللغة شيء آخر، وأن الخطاب حول اللغة هو الذي يعطينا تمثلاثنا عن ذواتنا ويمنحنا إحساسا بخصوصية ثقافية معينة. ولذلك فإنه، حسب منسق الجلسة، على كل منا ألا يضيق على نفسه بالحرص على الانتماء إلى لغة واحدة، فهناك فسحة لغوية في العالم يمكن الاستفادة منها مع الاهتمام بالكتابة باللغة العربية، لأنها هي التي تمكن من تجميع تجارب لغوية أخرى.
قُدمت الكلمة بعدها للأستاذ سعيد أصيل الذي انطلق في مداخلته المعنونة ب “تحديات التعدد اللغوي في المغرب: ملاحظات نقدية” من مقولة مشهورة لألبير كامو يقول فيها “نعم لي وطن إنه اللغة الفرنسية”، ومن مقولة للجنرال الفرنسي الذي صرخ في الفرنسيين أثناء اجتياح الجيش النازي لبلادهم قائلا: “تمسكوا باللغة الفرنسية” متسائلا عما إذا كان له الحق في أن يقول للعرب “تمسكوا باللغة العربية” أم ليس له الحق في ذلك. وقد أكد في سياق حديثه عن التعدد اللغوي والهوية على أن مسألة التعدد اللغوي وما تطرحه من قضايا ليس خاصا بالدول العربية التي تتحدث اللغة العربية وقد قدم مثالا على ذلك بفرنسا التي أصبحت تعيش، الآن، أزمة لغوية خطيرة وتسعى بشتى الوسائل إلى تجاوزها. ويرى أن هذه المسألة المتعلقة بالتعدد اللغوي ليست متواجد عندنا فقط وإنما هي مسألة فرضتها التحولات التي نعيشها في عالمنا المعاصر. وقد أكد الأستاذ في مداخلته على مجموعة من القضايا من بينها تأكيده على وجود هوية جماعية تستمد مقوماتها من ثقافة المجتمع وتاريخه وسيرورته الحياتية وعاداته وتقاليده، فالمسألة – في نظره – ليست مرتبطة فقط بالجانب اللغوي بل بجوانب متعددة ومتداخلة، تفرض النقاش اللغوي وتوجهه نحو وجهة معينة. إن اللغة وعاء للفكر وأداة للتفاهم والتواصل وأيضا للحلم؛ إنها مرتبطة بهذا الإنسان ككيان، كفكر، كحلم، كعلاقات سواء داخلية مع ذاته أو على مستوى العلاقات الخارجية والاجتماعية. وقد أثار الأستاذ في هذا السياق قضية خطورة الظهير البربري ورد فعل المغاربة عليه ليستشهد به على هذه الأزمة اللغوية التي نعيشها والتي نفكر فيها بطريقة غير صحيحة، معتبرا إياه الكاشف لهذه الأزمة والمبين لها. يرى الأستاذ سعيد أصيل أن قضية التعدد اللغوي فرضتها مجموعة من الأسباب من بينها الإطار الخاص والعام للغة العربية وللتعدد اللغوي، وفرضتها، أيضا، العولمة ليست الاقتصادية وإنما العولمة الثقافية التي تعد من أخطر أنواع العولمة، وتنضاف إليها – حسب الأستاذ دائما – عولمة القيم التي تعد أخطر وأكبر منها، وهذه المسألة تلاحظ بشكل كبير وجلي في مجتمعاتنا على مستوى طريقة الكلام والتفكير، وعلى مستوى النقاش، وعلى مستوى أزمة القراءة وما يتصل بها من خلال التعامل مع التكنولوجيا. وقد أضاف الأستاذ أصيل في مداخلته سببا آخرا للتعدد اللغوي مشاكله حدده في تبعات الاستعمار واستمرار نسقيته، وقد استشهد على ذلك بالدول التي استعمرت كلا من المغرب وإفريقيا وركز في مثاله على فرنسا التي أعدمت عند دخولها إلى “دولة مالي” عددا كبيرا من أساتذة اللغة العربية بغاية اجتثاث اللغة العربية والقضاء عليها هناك.
خلص الأستاذ سعيد أصيل في مداخلته المعنونة ب “تحديات التعدد اللغوي في المغرب: ملاحظات نقدية” إلى أن مشكل التعدد اللغوي في المغرب مشكل مفتعل بغاية إلهاء الشعوب عن قضايا أخرى أعمق بكثير، وأشار إلى أن الحديث عن العدالة اللغوية لا يمكن فصله عن العدالة الاجتماعية بمفهومها العام والفلسفي والسياسي والاقتصادي.. انتقل، بعدها، الأستاذ إلى الوقوف على بعض سلبيات التعدد اللغوي التي طرحها مجموعة من العلماء وقد حددها في التأثير السلبي على اللغة الأم الذي يتولد عنه – أي عن تأثير التعدد اللغوي – الضعف في اللغة والتفكك الاجتماعي. هذا وقد أشار الأستاذ سعيد أصيل في ختام مداخلته إلى أن هناك هجوما على الهوية الاجتماعية والثقافية والإيديولوجية المغربية مقدما مثالا على ذلك بالإعلام وبالفضاء الفني (الأفلام والمسلسلات..) معتبرا إياه فضاء ملوثا. وقف بعدها عند بعض الاستنتاجات التي يعتبرها مبررة لقضية التعدد اللغوي من بينها سوء تدبير الدولة للقضية اللغوية الذي كان على حساب اللغة العربية وعلى حساب كل اللهجات الأخرى، وقد استشهد على هذه القضية بمثال من مجال تخصصه الذي يتصل بالتعليم أو التدريس الذي عرف إدخالا للغة الفرنسية بقوة في عملية تدريس المواد العلمية، وهذا يطرح – حسبه – مشكل تدبير التعدد اللغوي في مجال تدريس اللغة بصفة عامة.
وانطلق الأستاذ رشيد الإدريسي في مداخلته الموسومة ب “اللغة والهوية في الحالات القصوى” من عنوان مداخلته وبالضبط من لفظ “الحالات القصوى” الذي اعترف بقصدية اختياره، فلفظ الحالات القصوى حضر في ذهنه بوصفه تعبيرا فرنسيا (Les Cas extrêmes) وهو يقرأ أحد الكتب التي يتحدث صاحبها عن اليمين المتطرف في أوروبا وعن بروزه من جديد. والمقصود – حسبه – بالحالات القصوى هي الحالات التي تكون فيها اللغات مستهدف من قبل لغات أخرى، أي اللغات التي يتم العمل فيها على السيطرة على وظائف اللغة المؤهلة تاريخيا وثقافيا لأن تكون هي من يقوم بذلك، واللغة الفرنسية – حسبه – تقوم بهذا الدور في المغرب. وقد أكد في سياق حديثه عن الحالات القصوى على مبدأ الانفتاح بعده مبدأ لا يمكن التنازل عنه لأن اللغة التي تكون لها الكلمة الأولى في مجتمع ما لا يمكنها أن تستمر إذا لم تحدث نوعا من التماس بينها وبين اللغات الأخرى وخاصة اللغات القوية التي تُنجز بواسطتها أبحاث علمية والتي تصرف عليها أموال طائلة. وقدم الأستاذ مثالا للحالات القصوى بحالة الاستعمار وحالات الهيمنة التي يتم فيها اجتثاث شعب وأخذ مكانه كما هي الشأن في فلسطين أو في إفريقيا ما تحت الصحراء من الاستعمار الفرنسي.
ويرى الأستاذ رشيد الإدريسي أن سجن اللغة العربية في المعبد وإغلاق باب المعهد في وجهها، يعتبر من بين العناصر التي يتم التركيز عليها لجعل اللغة العربية في حالة قصوى، بحيث يتم منعها من أن تصبح لغة تشارك في إنتاج العلم والمعرفة، ويرى أن اللغة مرتبطة بشكل جذري بالهوية وكذلك الهوية باللغة، فاللغة هي الهوية لكن دون أن ننفي أن تكون الهوية أوسع من اللغة.
ثم تساءل الأستاذ بعد ذلك عما إذا كانت الهوية في المغرب ما تزال في حالة قصوى، ليجيب بالإيجاب لأن عناصر الخطاب الكونيالي – في نظره – ما زالت قائمة بيننا. ويشير الأستاذ إلى أن قضية استحضار اللغة في الحالات القصوى قد وعى بها محمد عابد الجابري في الفصل الذي عنونه ب “من أجل ثقافة وطنية” ضمن كتابه الموسوم ب “من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية” الذي تحدث فيه عن الثقافة الوطنية” وهي مرادف للهوية. وقد أكد الأستاذ رشيد الإدريسي في نهاية مداخلته على أن اللغة العربية لا ينبغي الخوف عليها لأن لها أبعادا متعددة تهبها قدرة على الصمود وتجعلها قادرة على مواجهة اللغات الكبرى، ولكن بشرط توفر الإرادة في التمكين لها في محيطها الطبيعي، بدل محاصرتها وإقصائها عن ولوج القطاعات الحيوية.
عقب رئيس الجلسة الأستاذ عبد العلي معزوز على مداخلة الأستاذ رشيد الإدريسي ثم فتح الباب للنقاش، حيث شهدت الندوة تدخل عدد كبير من الطلبة والأساتذة، الذين طرحوا على السادة الأساتذة المتدخلين جملة من الأسئلة ساهمت في إغناء النقاش.