د/ محمد فخرالدين
هل بقيت نفس الصورة التي كانت ل سيدنا رمضان ، هل يغمرنا نفس الفرح الطفولي الذي كان للإقبال على مائدة غير عامرة من حريرة و شريحة و شاي ، أو من حريرة و حليب و تمر ..
وجبة الفطور هي الرئيسية في رمضان و مع ذلك لم يكن التركيز على الإكثار من التصنيف و التنويع في مائدة الفطور ، و تبقى وجبة الحريرة هي المفضلة في شهر الصوم ، و التي وسمته بميسمها الخاص عبر العصور..
هل بقي من تبادل لتلك الحريرة بين الجيران لأن مذاقها يختلف من جارة لجارة و من بيت إلى بيت ،هل من تضامن و تعاون بين الناس أو من زيارات للأهل و الأصدقاء في هذا الشهر الفضيل ، و احتفال متميز بمحطات هذا الشهر ..
هل من فرح للأطفال قبل سماع الآذان حيث يستمرون في اللعب خارج البيوت بينما يحظى الكبار بفطورهم ، و هل بقي لرمضان نفس الطعم التي كانت له عند الناشئة ..
و هل من اهتمام بالفقراء و المساكين و الضعفاء من جار و ابن سبيل و كل من كان يطلب ضيف الله
هل ما زال الأطفال يحتفلون بصومهم الأول و يستعمل أهلهم الحبل لقياس رقبة من حق عليه الصيام ووصل البلوغ ..
أم هو رمضان حديث ليس فيه إلا الامتناع عن الأكل و الشرب..طقوس ليس إلا؟
حريرة المدينة و حريرة البادية :
كان الخلاف كبيرا بين حريرة البادية و المدينة ، الكل في البادية من حجم كبير، القدر التي أو الحماس التي تنضج فيها الحريرة حيث استعمال الخميرة البلدية يضيف مذاقا حامضا على الحريرة ..
و يولد تلك الرائحة العطرة التي تنتشر منذ نصبها في وقت الظهر، إلى أن تمتد مختلطة برائحة الخبز و الرغايف قبيل المغرب ..
و سواء كانت الحريرة حمراء أو بيضاء أو من نبات الورقية كما تقول امرأة من الرشيدية مقدمة مع التمر أو الشريحة ، فقد كانت الزلايف أو الجبابن ربما سميت كذلك لأنه كان يصنع فيها الجبن ذات اللون الأرجواني المصنوعة من الطين أو الأقداح المنحوتة من الخشب العود أكبر حجما تتحدى الشارب، بحيث يعد من يشرب جوج جبابن بطلا حقيقيا مع الكثير من الصخب و الهمز و اللمز ، وكانت الصحة تسعف البعض فيصلون إلى شرب أربع جبانيات..
أما المغارف الخشبية الثقيلة الصفراء المصنوعة من أغصان الليمون أو الزيتون ، والتي تميل من استعمالها المتكرر إلى السواد وتحافظ على علاقتها الدافئة مع المشروب ، و التي ظهرت بعد أن استعمل الناس في الماضي البعيد المحرارات أو القواقع البحرية أو وظفوا أدواتهم من نبات الدوم و صنعوا منها معالق طبيعية ومحلية ..
أما الحمص و الفول الذي يلتصق بقعر الحماس أو القدر ، فقد كان دليلا على جودة الحريرة والذي غالبا ما يكون بقشوره و بكمية كبيرة تجعل الكل يرغب الاستزادة منه و إلا كانت خفيفة بدون معنى، فالكل يطلب غرفات من التحت ، فالحريرة الخفيفة غير مرغوب فيها ….
و ارتشاف الحريرة الساخنة عالق بالذاكرة مثل موسيقى كلاسيكية ذات إيقاعات ساخنة ، سانفونيا تجمع الأسرة المتعددة الأفراد حولها في تردد إيقاعات الارتشاف ..
في حين كان القزبر و الكرافس أو ما اصطلح عليه ب الربيع للونه الأخضر ، مهما جدا لأنه يضفي على الحريرة مذاقا متميزا ، الذي يختلف حسب التوابل المستعملة من منطقة لأخرى ..
و حريرة المدينة في ذلك الزمان كانت مرتبطة بسرعة الحياة و بتقشفها ، الجبابن أكثر صغرا وأشد زخرفة مصنوعة من الخزف أو البديع ، و المعالق حديدية بلونها الرصاصي تزيد من حرارة المشروب ، وطنجرة الضغط تسرع في إعداد الحريرة في وقت قياسي ، تعبر عن طبيعة الحياة الجديدة ..
و كذلك في المدينة كثرت أشكال القطائع في العلاقات الاجتماعية ..و ظهرت في رمضان أشكال جديدة من الطعام : وجبات مقلية و طواجن أو مقالي سمك تستهلك في الفطور حسب الذوق ومستوى المعيشة و تقاليد المنطقة بالإضافة إلى أنواع عديدة من العصير و أصناف الحلويات ..
و أصبحت المقاهي بدورها تقدم وجبات فطور كاملة للمسافرين و العازبين و العازفين ،هي عبارة في مجملها عن كأس قهوة وبيضة وبضع تمرات وقرص من الرغيف و قطعة من الشباكية و حريرة و كأس من عصير الليمون …مخلوطة ببعض الوجبات الكوميدية التي تقدمها الشاشة الصغيرة ..
رفض الحريرة البيضاء :
الحريرة الحمراء وجبة رئيسية لا يستغنى عنها البعض في الفطور ، حتى في أزمة الطماطم لم نبغ عنها بديلا ..
خاصة عندما كانت حقولنا يانعة بحبات الطماطم الحمراء العالقة بأسرتها القصبية،و جذورها المربوطة بشمايط بلاستيكية يومها كانت الطماطم في المنطقة تباع بأرخص الأثمان ، لا تتعدى عشرة دراهم للصندوق الواحد الذي يتجاوز الثلاثين كيلوغراما ، ثم في النهاية نبيع مطيشة سكيبة بدون صندوق أو ميزان …
هكذا بعد أن عرفت الحريرة الحمراء أصبحت الحريرة البيضاء شبه مرفوضة، نغضب كالأطفال إن لم نجد أمامنا على مائدة الفطور حريرة حمراء ، و لا أحد يفكر في شربة الخضر أو الحمية، فقد كان العمل في الحقول و الجهد العضلي هو الحمية الحقيقية ..
حريرة بيو و حريرة محنطة :
أزمة الطماطم جعلت علب ماطيشة المحفوظة تظهر في المدينة أولا و تتعدد أسماؤها ، طماطم مطحونة جاهزة للاستعمال قد تقلل من تعب ربات البيوت لكنها قد تقلل من الذوق و الطعم ..
كان ذلك قبل أن تظهر حريرة محنطة فيها جميع المكونات من توابل و نسمة و ربيع و عدس و طماطم..، تنضج في خمسة دقائق بعد خلطها بالماء الساخن ..قد تكون مناسبة لسرعة الوقت ووقت بلا طعم ..
عبادين الحريرة:
قد نجد هناك من يزيد من قلقه الصوم و الإقلاع عن التدخين ، يشعله رمضان فتتوتر أعصابه في غمرة وقت العصر و قبيل المغرب ،و عندما يسمع كلمة اشعل يبحث عن العراك بكل السبل ..
فقد يكون من المقطوعين قد ألف دخان السجائر ، و تدركه عادة التدخين على غرة و تتملك أعصابه..
و هكذا نشاهد عددا من المعارك الصغيرة و المناوشات تنشب في الأزقة و الدروب و في الأسواق في أوقات مخصوصة من رمضان ..
وعلى غير عادتهم في غيره من الشهور ، يشتغل البعض بالعبادة أكثر في رمضان ، فيصنفهم المغاربة في فئة عبادين الحريرة أو عبادين رمضان و ما إن يحين شهر الإفطار حتى يتأبطون شرا ..
و في غمرة حركة الشارع الليلية تظهر عادات جديدة ليست كلها صالحة يتم فيها تعويض ما ألفه المرء في الشهور الأخرى، و تختفي أخرى في انتظار فجر يوم العيد ..
السحور و الحانوت :
قلة المقاهي في البادية جعلت الحانوت في الماضي نقطة للتجمع ذات أهمية كبيرة ، فالقرويون و خاصة الشباب و البادئين في الكهولة و بعض الشيوخ المتوحدين ، يقصدونها للسهر و الترويح عن النفس ، هناك تلعب الضامة ، و الكارتة و الروندا و التريس حتى السحور..
و كلمات مثل الروندا والكبوط و الباهية من الألفاظ المشتهاة في هذا النوع من اللعب ..
هناك يظهر اللعبة المهرة و أصحاب الحظ و اللي طلع ليهم الزهر ، و يعلو الهرج و الضحك والضجيج المحبوب ، و التلفظ بكلمات لا إرادية تضحك الآخرين ، بالإضافة إلى ضربات بالأيدي وبالأرجل على حظ عاثر فوق كرطون أو حصير ..
بعض الأطفال ينظرون من بعيد و هم ينتظرون باستبطاء أن يحين وقتهم ليندمجوا في لعبة الكبار ..
يتوج ربح الطرح بالمونادا حمراء أو سوداء أو بيضاء قبل أن تعرف المشروبات بالاسم أيام لاسيقون برارج و يوكي و سيم أورونج ..
و الطرح أو الدور من اللعب قد يكون حلوا يحظى بالاستفادة منه الجميع ، الخاسر قبل الرابح ، أو حارا يلعب فيه على أشياء يحملها و يستأثر بها الفائز بمفرده … و لا يخلو هذا النوع من اللعب من تندر و تعلاق لفردة حذاء في عنق المنهزم ، و اعتزاز بالفوز و قلق و توتر للمهزوم ..
و.يستمر اللعب في تلك الحوانيت حتى وقت متأخر حيث يعود اللاعبون إلى خيامهم ليتناولوا السحور الذي هو ما تبقى من العشاء ..
و في المدينة طقوس أخرى ، فهي مكان الاختلاف حيث تمتلئ المقاهي باللاعبين الذين يمارسون مختلف أنواع اللعب من الروندا حتى الشطرنج .. وحيث تنتشر لعبة الرامي الذي هي أكثر فردية من الكارتة البلدية …
ومن جهة أخرى تمتلئ المساجد بمصلي التراويح ، قبل أن تؤمها النساء بدورهن بشكل واضح ، وفي الصباح يستمر البعض في النوم أو يستيقظون إلى أعمالهم المألوفة و النعاس يغالب جفونهم..
النساء و رمضان :
و تستقبل النساء رمضان بإعداد الحلوى الشباكية و إعداد السفوف و سليلو ويستغرق ذلك منهن إعداد ذلك وقتا طويلا و استحضار مواد معينة و ميزانية خاصة ..
و في أماكن أخرى كانت النساء بعد العشاء و النوم قليلا ، تعددن طعام السحور لأسرهن ، هن أمهات أو جدات أو عمات أو أخوات تقمن بإعداد عدد من الرغائف حسب عدد أفراد الأسرة ، من البطبوط المدهون الذي يقدم مع براد من الشاي حيث يتم إيقاظ أفراد الأسرة في محاولات متكررة حسب نومهم الثقيل أو الخفيف ، كان ذلك قبل أن يستغني الكثيرون عن طعام السحور ..ويديروا منه بالناقص ليناموا خفافا و لا يزعجهم الاستيقاظ من جديد لوجبة ليلية ..
تقول إحدى السيدات :
القاعدة ديالنا ، مع المغرب كانفطرو ، تانديرو الحريرة ، واحد النهار كانديرو المسمن واحد النهار كانديرو الخبز ديال الشحمة ، كانتكاو شي شوية ،كانصليو شوية ديال التراويح ، العشاء خفيف و قليل ،كانعسو،في السحور كانفيق ، نص ساعة أو ساعة قبل السحور ، كانعجن و ننعس ، في السحور كاندير المخامر و المطلوع ، كانعمرو إما حليبة و لا أتاي ، الدراري كايبغيو أتاي ..
كاين للي كايفطروا و يتعشاو و ينعسو ، اللي قدام شي شوية ..ضروري السحور … لا ما درت الخبز في السحور بحال لا ما كليتش ، الخبز كايكون خامر ديال الزرع و صافي هاذي هي العادة
كسكس العيد
في العيد عادات جميلة بعد عادة الفضيلة في شهر رمضان ، حيث تستيقظ النساء باكرا و يعددن فطور العيد لأطفالهن ، تصبحن على أهلهن و جاراتهن بتحية العيد و تتبادلن الزيارات و قطع الحلوى أو الرغائف المعدة سلفا ، و تهيئن كذلك للجامع أو مسجد القرية فطورا خاصا ، و غالبا ما يكون الفطور المخصص للبيت عبارة عن مسمن و بغرير و غيرها من الفطائر المدهونة بالزبد و الزيت و العسل الرومي أو البلدي إن توفر ..
أما الفطور الحقيقي فهو أطباق الكسكس التي تسهر النساء على ملئهن إلى أخرهم بالسميد وسبع خضر لتهدى إلى المسجد القريب..
بعد ذلك يقوم الرجال بنقل صحون الكسكس إلى الجامع لفطور العيد ليستسلم الجميع بعد صلاة العيد لوجبة جماعية دسمة تصاحبها أحاديث شيقة و بهجة و دعوات..
أما الأطفال فهم مشغولون بملابسهم الجديدة و بما جمعوه من الأهل و الأقارب من دراهم فلوس العيد قبل أن يقصدوا أول حانوت لشراء ما علق بأذهانهم من رغبات مؤجلة..
هل يمر سيدنا قدر..؟
قد يمر سيدنا قدر و يحقق الأمنيات أو قد يتسلل خلسة كشق ضوء في البصر كما يقول رجل يزعم أنه عاين مروره ، الكل يعتقد أن السماء ستنشق بالتمنيات لا سيما الأطفال ، فينتظرون على أحر من الجمر، هو عيد حقيقي بكل المقاييس و فرجة على النجوم و السماء و ترقب لأي مؤشر ، فرح و سمر طفولي حتى يغالب النعاس الأجفان ، و قد يمر سيدنا قدر دون أن ينتبه له أحد مسرعا مثل شهاب ناري و قد أرهقته كثرة أمنيات الناس وتطلعاتهم إلى مواسم الخصب و الرخاء ، كيسه الكبير لم يسع كل التمنيات التي لم تتحقق ، هو يشبه بابا نويل ، لكنه أكثر حرارة منه لبعده من الصقيع البارد ، و لا يستثني أحدا حتى الكبار لهم نصيب من الأمنيات و الأمل ، يحقق نظريا أماني للجميع على الأقل حتى إشعار آخر ..