( وأنّ الشخصيّة المعروفة باسم بورخيس- هذا الأعمى العجوز ، صاحب العكّاز والابتسامة القاحلة- ليس إلاّ ممثّلاً إيطالياً من الدرجة الثالثة ، تعاقدوا معه قبلها بسنوات ليؤدّي هذه المزحة، وأنّه بقيّ أسيراً داخل الشخصيّة، مستسلماً في النهاية ليكون بورخيس حقيقةً )
أنطونيو تابوكي ، من مقالة: ” بورخيس الذي لم يوجد أبدا ” .
ساحبا من خلفه حقيبته الجلديّة الخفيفة ، حلّ السيّد عبد الفتاح كيليطو بمدينة فاس على متن آخر قطار ليليّ ، و عند اجتيازه لمدخل المحطّة ذاهبا صوب موقف سيّارات الأجرة الصغيرة ، وجد شخصا لايعرفه ، يبدو من خلال بذلته الأنيقة أنّه أحد موظّفي القطاع السياحيّ ، كان يحمل يافطة سجّل عليها اسم الأستاذ عبد الفتاح كيليطو .قال السيّد كيليطو مع نفسه إنّه بلاريب محض تشابه أسماء ، مادام لم يحجز بنفسه أيّ فندق معيّن بالمدينة ، أو يكلّف أحدا ما من معارفه القريبين بهاته الخدمة الباهظة ، التي لم يتعوّد عليها في أسفاره الكثيفة عبر ربوع البلاد ، و لا حتّى تسمح بها إمكانياته الماديّة المتوسّطة . بيد أنّه – و لسبب غامض لم يدرك معناه الخفيّ – قدّم نفسه للموظّف على أساس أنّه تحديدا الأستاذ كيليطو ، وهو يعي جيّدا أنّه قام لتوّه بانتحال هويّة ومصير كائن آخر ، لا يعرف أدنى تفصيل عن حياته ، أو شغله، أو اهتماماته . قاده الموظّف الصامت طيلة مسافة الطريق ، إلى رياض بالمدينة القديمة اسمه ” الحديقة المجهولة ” ،
مسوّر بالحجر البازلتيّ مثل قلعة منيعة ، حيث استقبله قزم لطيف بقفطان مغربيّ تقليديّ ..كان يتنطّط على أحد كتفيه قرد ” مكاك ” بريّ من دون ذيل ، ثمّ سلّمه مفاتيح غرفة فسيحة ، بمثابة جناح كامل يتوفّر على كافّة وسائل الراحة و الرفاهيّة ، ومزوّد بعشرات الرفوف المشتملة على عدد هائل من الأضابير المغلقة . لم يجشّم السيّد كيليطو نفسه مشقّة التنقيب فيها بسبب الحياديّة المتجذّرة في طباعه وسلوكه ، فنام ليلته الأولى مرتاح البال قرير العين لعدّة ساعات كما لم ينم طيلة عمره ، إلى أن أيقظته ، قبيل الفجر ، قهقهة القرد ، و تربيتة الحاجب القزم ، ثمّ طلب منه تجهيز نفسه دون إبطاء. لم يستوعب حينها أيّ شيء ممّا يحدث له ، غير أنّ السيّد كيليطو خرج إلى فناء أندلسيّ مغبّر، تحفّه أشجار زيتون ذابلة، و تتوسّطه نافورة ماء ناضبة ، وفي خلفيته طاولة مستطيلة يغزوها سوس الخشب ، كان يجلس إليها خمسة قضاة بأرديتهم السود و ياقاتهم الحريريّة .. باشروا تباعا العواء في وجهه ، وتوجيه تهم غير مفهومة له ، من قبيل : ما دخلك أنت بجدل اللّغات ؟كيف تجرؤ على جعل الماضي حاضرا ؟ لم زرعت كلّ تلك الجذور الشيطانيّة في السرد ؟ ما الذي يجمعك بحمّالي الحكاية الكونيين أيّها المحليّ؟ إنّ المرايا قد أضحت جميعها بسبب تخريجاتك الجانحة كافرة بوظائفها السابقة ، فما قولك في هذا أيّها الظّنين؟. ظلّ السيّد كيليطو مشدوها معتصما بصمته ، ممّا ساق رئيس القضاة إلى رفع الجلسة ، بعد أن طلب منه مراجعة قناعاته التأويليّة على وجه السرعة ، و العكوف فورا على تهذيب
وتنقيح أضابيره من أراجيفها و شوائعها المثيرة للاضطرابات . خاض السيّد كيليطو في ركام الأضابير بقصارى جهده عدّة ليالي مسهدة بغرض تعديلها بالقلم الأحمر، غير أنّه لم يفقه شيئا من أسرارها و مكنونها ، كما أنّه كان يصطدم عند نهاية أيّة إضبارة بعبارة ” مخفيّ عن العامّة ” . أسقط في يده الملطّخة بذنوب التزوير والإفتئات لشهور مديدة ، و حاول الهرب خارج أسوار الرياض المحصّنة ، لكن دون جدوى . كما أنّه أقرّ أمام كتيبة القضاة بجريرة الاستحواذ على صفة نظيرٍ غريبٍ ليس في مستوى حظوته أو منزلته ، و توسّل مترجّيا ، شاكيا باكيا، البحث عن الأستاذ كيليطو الحقيقيّ ، و استقدامه لسؤاله عن كافّة هاته الدعاوى التي لاتمتّ له بصلة .
بعد مرور سنوات كثيرة قيد الاحتجاز ، وهو على مشارف النّزع الأخير ، أنْبَأهُ -أخيرا – رئيس القضاة بأنّ المدعو الأستاذ كيليطو لاوجود له في الواقع على الإطلاق ، وبأنّ سمتهُ الشائعَ بهذا النعت ، مجرّد ابتكار ساخر من القضاة الخمسة، الذين تسلّوا طيلة عقود بنشر أعمال نقديّة و تخييليّة ، ثمّ نسبتها إلى شخصيّة مموّهة اسمها الأستاذ عبد الفتاح كيليطو، من أجل الإيقاع بالسذّج من أمثاله، الذين يتطفّلون على اقتحام متاهات الأدب و حدائقه المجهولة ، دون تبصّر أو درايّة .
مراكش في : 27/1/2023