الأمية ليست هي فقط أن لا تقرأ أو لا تكتب أو لا تحسب ، بل هي جهلٌ بالرُّوحِ ، والحُبِّ ، وأحوال القلب ، والعقل ، والسلوك الإنسانيِّ بإشاراته وإلماحاته ورمُوزه . جهلٌ بما وراء الأشياء ، وما يحويه الباطن من نورٍ مخفيٍّ أو مُتوارٍ ، جهلٌ بالذات في إشراقها وتجلِّيها ، وتفكيرها العالي المتصل ، جهلٌ بما تحوزُه النفسُ وتحملهُ من معانٍ ، ومعادن ، وجواهر نفيسة وكريمة ، جهلٌ بالتأمُّل ، والتفكُّر ، والتعقُّل ، والتدبُّر ، جهلٌ بالمُساءلةِ ، والمقارنةِ ، والاستدلال ، والاستقراء ، والتحليل ، والنظر ، والملاحظة .
فيمكن أن يكون المرءُ متعلمًا دارسًا في الجامعة ، وتجده شديدَ الجهل بنفسه ، ومن حوله جهلا كاملا أو جهلا مركَّبًا ، وأمور أخرى كثيرة من المفترض أن يكون عارفًا بها ومُحيطًا .ولعل ما يحيِّرني ويحبطني أحيانًا بل كثيرًا ، ويُحيل حياتي جحيمًا ، أن تجد حولك جهلة كثيرين يزيدون ولا ينقصُون ، هم فئةٌ من الجهلة لا تعرف ، ولا تدرك ، ولا تعلم ، ولا تزنُ الأمور ، ولا تقرأ ما يكتبه الآخرون ، ولا تسلِّم بجهلها مهما تكُن الأمور ، تعيش على الكفاف من النتش القرائيِّ في الصُحف والمجلات وأغلفة الكتب ، وقراءة الفهارس ، والنُبذ الموجُودة على الأغلفة الأخيرة للكتب ، ولا تنسى أن تحفظها جيدًا ، كي تطرشها على المقاهي وفي الندوات واللقاءات العامة أو الخاصة ، هؤلاء الذين يعيشون على السَّماع ، ويزعجهم أن يقرأ ويكتب غيرهم ، وهم من قال فيهم طه حسين (1306 هـجرية / 15 من نوفمبر 1889 ميلادية – 1393 هـجرية /28 من أكتوبر 1973ميلادية ) وهو يقدم كتابه ( الأيام ) : ” إلى الذين لا يعملون ، ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس .. أهدي هذا الكتاب ” .وفي غياب المعرفة يتفشَّى الجهلُ ، ويزدادُ يومًا إثرَ يومٍ ، وتنتشر الفتاوى الجاهلة ، وتترسَّخُ في الأذهان القشُورُ ، ولا يعودُ للمتونِ مكانٌ أو مكانةٌ ، كأننا نبتعد عن التدوين بعدما غادرنا الشفاهية ، كأنه كُتبُ علينا أن نبقى طويلا في ما هو شفاهيٌّ .
فالجهل يعتدي على الذين أوتوا الوحي ، والإلهام ، والعلم ، والشِّعر ، والكتابة ، والفن ، ويحملون في قلوبهم نورًا مقدَّسًا يهدى الحيارى من السائرين نحو طريق المعرفة . وكأنني أعيش في زمن عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي الكناني” أبو جهل (572 ميلادية – 624 ميلادية / 2 هـجرية )” ، المعروف بأنه أجهل العرب . وما من كتابٍ مقدَّسٍ أو غير مقدَّسٍ إلا وذمَّ الجهلاء ، وتوعدهم بمصيرهم المحتُوم من فرطِ سقوطهم المتكرِّر في آبار الجهل السحيقة التي لا قرار لها ولا جواب .
الجاهل عندي هو فاسدٌ ، وسفيهٌ ، وأحمق ، ومُضِرٌّ ، ومتلِفٌ ، ومُشْعلُ حرائقَ ، وجبان ، وضيق النفس والخُلق ، ويحمل من عدم الحلم ما يملأ بحريْن وعشرة أنهر ، ولا يقدر أن يكتم حقده ، ولا يخفي غيرته الشديدة التي تصيب روحه ، وتخرِّبُ نفسه ، وكأنني أسمع الشاعر عمرو بن كلثوم ( توفي 39 قبل الهـجرة /584ميلادية ) ، وهو يقول شعرا 🙁 أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواوَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا ).
* ahmad_shahawy@hotmail.com