يقتضي التراجع عن الموقف “مراجعات” مبنية على الإقرار والاعتراف والإعلان، ومن غير المقبول أن تقوم “الشخصيات العمومية” بالانتقال من “قول” إلى آخر، وخصوصا في حال التناقض، دون التأسيس لهذا التحول، لأن الكشف عن خلفيات ذلك من شأنه أن يكون له تأثير على الآخرين، فلا معنى أن تكون “الدعاية” دعوة عامة والتراجع عنها شأنا خاصا لا يعرف به أحد.
من مراجعات “منتصف الليل” مقالا لأحمد الريسوني، الداعية الإسلامي والرئيس السابق للاتحاد العالمي للعلماء المسلمين والرئيس الأسبق لحركة التوحيد والإصلاح المغربية، تحت “حروب الاتهامات والتشكيكات والمنهج الشرعي المهدور”، نشره إلكترونيا، قال في مقدمته:
“لا أعلم سلاحا هو أشد فتكا بالمسلمين وأخوتهم ووحدتهم وقوتهم، من سلاح التشكيك الجماعي والطعن الجزافي، في البواطن والسرائر والنيات، واتهام الخصوم وأهل الطوائف والمذاهب والمنظمات المخالفة والمنافسة، ورميهم بالنفاق والضلال، والخيانة والعمالة…
ورغم أن هذا السلوك، وهذا المسلك، معدود في الشرع من الكبائر والموبقات،.. فإني لا أعلم شيئا في الشريعة يتعرض للخرق والهدر، والتعطيل والإهمال، مثل الأوامر والنواهي، والتشديدات والتحذيرات، الواردة في هذا الباب، حتى لأنها غير موجودة، أو غير ذات معنى..
فعامة المسلمين وخاصتهم، وعلماؤهم وزعماؤهم، ودعاتهم ووعاظهم، وصلحاؤهم ومصلحوهم كلهم تقريبا، متواطئون على هذا الخرق والهدر”.
توجه الريسوني بكلامه إلى الآخرين، يريد أن يقول بانه ليس من هؤلاء الذين يقومون بتسقيط الآخرين، واستدعى لذلك “سيرة”، لا يوافقه عليها كثيرون ممن عايشوا نشأة الحركة الإسلامية في المغرب، وحاول أن يرسم لنفسه صورة الداعية المنضبط لقواعد الاختلاف مع الآخرين.
على كل حال أزرار الحاسوب ليس عليها حساب وليكتب ما شاء، لكن بما أنه وضع منهجا وقاعدة فلنطبقه عليه، حتى نعرف هل هو فعلا ممن يرفضون سلوك رمي الآخرين بالألقاب الساقطة، أم العكس هو الصحيح؟
وعندما ذكرت صفات الريسوني، التي ابتعد عنها حالا مستمرئا صفة الفقيه المقاصدي، حتى دون فتوى مقاصدية واحدة، لم يكن ذلك تسويدا للبياض، ولكن لإقامة الحجة على الرجل.
لقد كان رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح منذ الاندماج بين الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي إلى حدود هفوته في الحوار، الذي أجرته معه يومية “أوجوردوي لوماروك”.
هذه الحركة، الموسومة بالحركة السرورية نسبة إلى زين العابدين سرور، كانت وما زالت إلى يوم الناس هذا مناوئة للمخالف مذهبيا، وكان زعميها بنكيران هو من وقف وراء توزيع كتاب “وجاء دور المجوس” للداعية المذكور والذي توفي بقطر، وحملت على عاتقها مناهضة ما سمته محور الروافض، بل تقول إنه يكفيها فخرا التصدي لما أسمته “التغلغل” الفلاني، ناسية أنها هي نفسها نتيجة لتغلغل “سروري” في المغرب، ولأنني تناولت هذا الموضوع في وقت سابق، فلن أعوذ إليه الآن. وحتى أكون دقيقا، فقد واجهت حركاتهم بالتجديف محور المقاومة طوال السنوات الماضية، وكانت داعية لمواجهته والتخلص منه.
أما الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، وبعد تأسيسه في وقت من الأوقات بمشاركة علماء ومثقفين من كافة المذاهب، تحول في لحظة من اللحظات، إلى جناح علمائي لتيارات الإخوان والحركات المرتبطة بهم، ويكفي أن رئيسه الأسبق يوسف القرضاوي، الذي كان الريسوني نائبا له، هو من أطلق حزب “اللات” على المقاومة اللبنانية، ودعا إلى مقاتلة هؤلاء في كل مكان، بل دعا أمريكا إلى التدخل.
والآن نقف على مواقف الريسوني، السابقة عن موقفه في منتصف الليل، وهي مواقف الكثير ممن يحاولون اليوم التموقع بعد أن خابت كل توقعاتهم، وبعد أن تأكدوا أنه لا توجد جهة داعمة للمقاومة غير المحور. الاعيب الفتاه منهم، ينحنون للعاصفة ثم ينقلبون، ولقد كان واحدا منهم وهو الهناوي يملؤ الدنيا صراخا ويعلن تضامنا غير مشروط مع حماس لكنه اعتبر الحاج قاسم مجرم حرب، مع أن هنية والسينوار يتحدث عن أنه قدم كل ما تحتاجه المقاومة من الدعم. إن امثال هؤلاء يفضحون ما يجري في الكواليس، ويظهرون ما يخفي المتذاكين منهم. ولقد سبق ونعتهم الريسوني بالقول بأنهم حقا صفويون.
انخرط الريسوني باكرا في التشنيع ولا يمكن حصر كل ما كتب في الموضوع، ولهذا سأركز فقط على نماذج دالة على وجوده على رأس كتيبة تسقيط الآخرين ممن ينتقدهم اليوم.
كتب في صحيفة التجديد بتاريخ 3 أكتوبر 2008، مقالا تحت عنوان “أهل السنة يدافعون عن الشيعة والشيعة يشتمون إمام أهل السنة !!”، ويقصد بإمامهم يوسف القرضاوي، اعتبر فيه أن السب والشتم ملازم للشيعة “من المعلوم أن قاعدة السب والشتم والقذف، لفضلاء الأمة وأعيانها، هي أحد مواطن الخلاف والتوتر بين السنة والشيعة على مر التاريخ. ومعلوم أيضا أن بعض علماء الشيعة يحاولون تخليص طائفتهم من هذه القاعدة الشنيعة التي تلازمهم”. وهذا من التشنيعات التي لا تنتهي وتمتليء بها مصنفاتهم، ويكفي فتح كتاب منهاج السنة لابن تيمية، الذي ينعتونه بشيخ الإسلام، لتحصي عددا هائلا من التشنيعات في مقدمته قبل فصوله.
وفي مقال نشره بموقعه الالكتروني تحت عنوان “الطريقة المثلى لمواجهة إيران”، قال فيه “السياسات الإيرانية ماضية – منذ عقود – في اختيارات ومسارات منحرفة مدمرة، وفي مغامرات عدوانية إجرامية، كما هو الشأن في سوريا والعراق واليمن..”، ويعتبرها إلى جانب سياسات أخرى للسعودية منتجة للطائفية، لكن تمويل قطر للنزاع في سوريا باعتراف حمد بن جاسم، رئيس وزراء قطر حينها، فهذا لا شأنه له بالطائفية عند الريسوني. مضيفا في المقال ذاته “نعم، مواجهة التغلغل الإيراني وسياساته الطائفية، واجب شرعي وحق قومي، ولكن: ما هكذا تورد الإبل يا أهل الإبل”.
في حوار مع موقع العمق المغربي يوم 8 يناير 2016 اختار له المحرر عنوان “إيران تمارس الزحف المسلح وعلينا مواجهتها”، وهو مستقطع من كلامه، قال الريسوني “الحقيقة أن من العناصر المشكلة لهذا المشهد أن إيران سلكت سياسة قطعية لا لبس بها، هي الإصرار الشديد على نشر التشيع في العالم الإسلامي العربي في أفريقيا وفي آسيا لترسيخ مذهبيتها ونفوذها ومذهبها، هذه سياسية كانت في وقت من الأوقات خافتة، وأصبحت صاخبة بل دموية، وأصبحت مسلحة، وأصبحت مزودة بالمليشيات والأذرع العسكرية المسلحة في العراق وفي لبنان وفي سوريا وفي اليمن، وبذور ذلك في عدد من الأقطار الإسلامية الأخرى”.
وأضاف في الحوار ذاته “إيران يجب أن تحترم الدول والشعوب العربية والإسلامية، وأن تكف عن هذه التدخلات، وأن تكف عن هذا الزحف المسلح، لقد وصلنا إلى مرحلة الزحف الشيعي المسلح، عدد من الدول التي ذكرتها تعيش على وقع زحف شيعي مسلح.
لم نعد فقط أمام اختراق دعوي أو ثقافي أو دعائي أو سياسي، ولكن انتقلت إيران في السنين الأخيرة وخاصة منذ سقوط العراق أو تسليم أمريكا العراق إلى إيران، أصبحت تزحف عسكريا وتنشئ مليشياتها في كل مكان”.
وأكد أن “هناك عقائد شيعية تحرك كل هذا، هناك عقيدة الإمام المغيب، الذي يوشك أن يرجع حسب نظرياتهم، وهم يهيؤون له من القتل والفوضى والمليشيات، ما يليق باستقباله استقبالا دمويا للأسف وهذه عقلية خرافية جاهلة هي التي تحرك السياسة الإيرانية، هي التي تحرك الجيوش الإيرانية في المنطقة، وهي التي تحرك الحرس الثوري، الذي يتحرك بضباطه وأحيانا بمليشياته استقبالا للمهدي للأسف، وكأن المهدي متعطش للدماء لكي يأتي”.
ونشر في موقع هوية بريس يوم 31 يوليوز 2015 مقالا تحت عنوان “إيران تتفاهم مع الشيطان الأكبر وتتقاتل مع الشقيق الأكبر”. ردد فيه جميع التشنيعات التي يطلقها دعاة الوهابية منذ زمن قال فيه ” القادة الدينيون الإيرانيون بحكم مشاعرهم وثقافتهم الطائفية الطموحة والمتعالية، يرون أن من حق الشيعة، وربما من واجبهم، غزو العالم السني وتشييعه، وإعداده لاستقبال الإمام المهدي”.
ويوم 23 شتنبر 2014، أجرى موقع عربي 21 حوارا قال فيه “لا يخفى على أحد أن جماعة الحوثي المسماة (أنصار الله) متبناة ومحتضَنة بصورة كاملة من إيران وحزب الله اللبناني، بل هي عبارة عن (حزب الله اليمني). وعلى هذا الأساس فلها كل أشكال الدعم بالسلاح والمال والخبرات والتدريب… كما أن الزحف الحوثي معزز هذه المرة بعلي عبد الله صالح وحزبه وأتباعه العسكريين والسياسيين والقبليين. بمعنى أن الحوثيين في هذا الزحف الأخير هم حصان طروادة الذي يضم في أحشائه كل من ذكروا”.
هذا جزء بسيط مما قاله الريسوني خلال سنوات متفرقة وكل هذه المقالات ما زالت منشورة في موقعه الرقمي، وهي تدل على أن الداعية الريسوني كان ولسنوات طوال ضمن كتيبة التسقيط والتجريح للآخرين، الذين حاول اليوم أن يقلب عليهم الطاولة ويفر إلى الأمام استعدادا للمتغيرات، التي جعلت من محور المقاومة الداعم الوحيد للمقاومة في فلسطين.
هذه هي طريقتهم، حينما يتمكنون يركلون، وحينما تتغير الاحوال يهربون إلى الأمام، ويظنون انهم يخدعون الجميع. ومع أن مقاله استغل لحظة الرد على مقالات الشيخ مطيع، فهو يعطي إشارة بأنه من أهل الوسطية والاعتدال، بينما هو وحركته رموز الطائفية والتشنيع بلا منازع.