(كتب: د مصطفى غلمان) ـ في بلادنا، كل شيء يتغير، إلا إعلامنا، فإنه تابت لصيق بوضعيات ليس لها من الأمر شيء، سوى تدوير الكلام وتأبيده، على نحو يدفع لليأس والنفور والانتحار الفكري.
لا حاجة للتذكير بمشهدنا الإعلامي المرتبك والمأزوم، والمشتعل في نيران الأهواء والزيغ القيمي، فلا تكاد تمر دقائق دون تسجيل عشرات السقطات الأخلاقية، بعد أن سهلت مواقع التواصل الإجتماعي ومجموعاته العائمة داخل مجراته الغامضة، فضحها وتعريتها وتعميتها، على مزاد الرعاع ووحوش الدنية والتفاهة.
ومن نحن، في تلكم الأشتات الدائخة والندوب المرتخية على وجوه السخافات، حتى نقضي ما نحن مهيؤون لأجله، ومنتدبون لتمثيله، في خضم تعتيم مشهر على الرؤوس وفي وضح النهار، يقلب الحقيقة ويعزز سبل الفداحات وتغصيب الغرائز وتحويلها إلى ماخور اجتماعي، متواطئ مع ماكينة تشويه الإنسان وقيمه؟
إنه لمن المحزن والمؤلم، أن تتيه مؤسساتنا، الشاهدة على وضعية مأسوف عليها، بالصمت المؤامرة وبالإعداد لسلخ ما تبقى من أخلاقيات داهمتها الحتوف وزاغت عن أهدافها التي بنيت لأجل صيانتها والدود عنها والتشريف بتمتينها وتثمينها.
وما يزيد الضنك وحلا ، استغلال نكوص المبصرين بالجوهر، ضعفا في الموقع والنفوذ ، وتأخرا في التجمع والغلبة ومواجهة السيل، حتى أضحت الأطراف المحتشدة على الباطل، تعبث وتهزأ وتستكبر بالوضاعة والوساخة، وتستحوذ حد التخمة، فلا تكاد ترى غيرها في ساحة تراجع فيها فرسان الكلمة ونجوم الفورة ويواقيت الاحتماء.
وها نحن نرى السقط الدني من العقول الجوعانة، ومن الشواغل الفاشلة المحبطة، هي من تتجلى في المقدمات وتتفاخر بالميكروفونات، وتعتلي كراسي الفراغ، دون أن تنبس ببنت شفة، ولا بسؤال مؤمل ورؤية تحريرية شاخصة؟.
كنا ننظر للمجلس الوصي، كأنه منقذ قادم، سيبذر وطنا جديدا لهذا العالم الممزق، ويصلح ما أفسده الدهر وعافه، لكنه يرى بعينين ويقصر بحدوس وجروس، لم يكن له من السلط ما يشفي ويزجي. فهو معلاق يعرض أَجزاءهُ للضوء والهواء، ولا يشي بأي قيمة إضافية أو ثقافية إعلامية، أو قضية يقام لها ويقعد، غير ما تتبادل فيه أطيافه من الأدوار والاعتبارات الضيقة وأوجه أخرى في قضايا السياسة والنقابة والوجاهة؟.
وتبدو المتاهة أضيق وأطول، فالأقنعة التي انسلخت عن جسدها، وتمنطقت بسيوف الهدر واستبقاء الأحوال وإدامتها على ما هي عليه، تريد سلطة أكبر ، وتابعين عبيد الغايات الضيقة، كما لو أن الوحل الذي يلهب أقدامهم بالعجز وقلة الحيلة، يباعد بين الفعل والقول، بين الأماني الواعدة والوقائع المرة .. فقد اكتشفنا سباقين ومشدودين لهذه المقادير المصنوعة برداء االلُّهْوَة والعطيّة وترك الأبواب المفتوحة لرياح العطن والصلف، أنه مهما تقلبت الظروف وتدابرت، فإن المنازل التي ننزلها، لا تروم أي نتيجة، ولا تحقق أي مبتغى، مادامت التنمية بعيدة عن الإعلام، ومادام توجيه الإعلام الرسمي ومثالب الإلكترون الجديد يحصد الخيبات. ومادامت المحاذير التي تعسر في خطط الأوصياء واستراتيجياتهم، تبرح أمكنة القائمين على نفس الخطايا والتقصيرات. فهل نكون ضحية لتاريخ يجيش بالدسائس، تباع فيه الذمم وتجترح فيه الوعود، ويستغنى فيه عن الأخلاق، ويكثر فيه هرج ومرج المعاول، ويحصر فيه المجتهدون، حتى لا يتسع الحيز من هذا الوطن العزيز، ولا يبقى فيه سوى من يكون قويا بالمال أو النفوذ والجاه، أو نصرة الفساد والفرار إليه؟.