ـ آخر التهجمات ما صدر عن فريق الأحرار وانسحابه من اجتماع بالغرفة الثانية ـ
يعود نقاش انتشار الفساد وتجذره في البنى المجتمعية المغربية، ليثير المزيد من الجدل، وتستمر معه صدامات البوليميك بين مؤسسات الدولة وتقارير حقوق الإنسان الدولية والوطنية، لدرجة من الغرابة تستحيل معها عملية استحضار الواقع الذي تعيشه الإدارة والأحزاب السياسية التي باتت تفرخ من يحمل وزر هذه التقيحات ويسهم في تعميقها وتدويرها على نحو غير مسبوق في تاريخ السياسة العمومية.
من مفارقات هذه الصورة المليئة بكل تناقضات الحياة السياسية، كما نعيشها يوميا في مغربنا الراهن، انسحاب فريق حزب التجمع الوطني للأحرار من اجتماع عقده مجلس المستشارين، أمس الأربعاء، لمناقشة الميزانية الفرعية لهيئة النزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها.
والسبب كما جاء في تصريح رئيس الفريق محمد البكوري، أنه من غير المعقول أن تقدم الهيئة عرضا في البرلمان تتهم فيه الجميع بالفساد، بما في ذلك مؤسسات وقطاعات حكومية؟، مشيرا في ذات الوقت، إلى أن الأرقام التي قدمها محمد الراشدي رئيس الهيئة تتضمن اتهامات شاملة بالفساد.
ومتسائلا: كيف للتقرير الرسمي، أن يرصد، كون وزارة الصحة هي القطاع الأكثر فسادا بنسبة 68 في المائة، تليها الأحزاب السياسية بنسبة 53 في المائة، والحكومة بنسبة 49 في المائة؟.
معلوم أنه قبل حوالي عشر سنوات، أطلق المغرب الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد، بغرض توطيد النزاهة والحد من الفساد في أفق سنة 2025، من خلال جعله في منحى تنازلي بشكل ملموس، وبصفة مستمرة، وتعزيز ثقة المواطنين، وتحسين نزاهة مناخ الأعمال.
ماذا تحقق بعد إطلاق المشروع اليوطوبي؟
صحيح أن المغرب صنف دوليا بالوصول إلى مستوى 60 من 100 في مؤشر مدركات الفساد لسنة 2025، وربح 20 رتبة في مؤشر مناخ الأعمال، و25 رتبة في مؤشر التنافسية العالمي في السنة ذاتها”. لكن اختلالات جمة، لازالت تكبح عقدة تنزيل الاستراتيجية المأمولة، خصوصا بعد دخول القانون 46.19 حيز التنفيذ على إثر تعيين أعضاء مجلس الهيئة وأمينها العام.
المغرب بحصوله على 38 نقطة من 100 في مؤشر مدركات الفساد لعام 2023 يكون قد تراجع 5 نقاط خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهو الذي انعكس على ترتيب البلاد، حيث انتقل من الرتبة 73 ضمن 180 دولة لعام 2018، إلى الرتبة 97 في 2023.
السؤال: هل وضعت الحكومة خطة لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته على رأس أولوياتها الوطنية، حتى تتمكن من ترقية ترتيبها إلى مستويات متقدمة، كما هو الشأن بالنسبة لدول كثيرة.
إن التقارير الت تتحدث عن تراجع المغرب على مستوى مؤشر الفساد السياسي، ومؤشري تطبيق القانون والحكومة المنفتحة، المتفرعين عن مؤشر سيادة القانون، ومؤشرات استقلال القضاء وحرية الصحافة والخدمات على الإنترنت، ليست جديدة بالمرة، ولا يمكن استقصاؤها فقط، من مؤشرات الهيئة تتضمن اتهامات شاملة بالفساد، التي تعتبر مؤسسة دستورية مستقلة ونافذة التأطير والجهوزية. بل إن منظمات ذات مصداقية في نسق الرصد والشفافية والقياس، كمنظمة الشفافية الدولية، وهيومن رايتس ووتش، وغيرها، تؤسس تقاريرها الحديثة، من كون المغرب لازال يقبع في رتب متأخرة، وأقرب هذه التقارير، أكدت على ترتيبه ال 97 عالميا و9 عربيا، بـ 38 نقطة.
ومؤشر مدركات الفساد هذا، يعمد إلى تصنيف 180 دولة ومنطقة حول العالم حسب مستوياتها المتصورة للفساد في القطاع العام، ويدرج المعطيات ضمن مقياس، يبتدأ من النقطة 0 والتي تفيد أن الوضع فاسد للغاية، إلى 100 التي تعني أن الوضع نظيف جدا.
التقرير نفسه، يقول أن “الفساد المُستشرِي في الدول العربية، من بينها المغرب، يُقوِّض بشكل كبير تحقيق تقدم في المنطقة. ورغم تعهدات البلدان بمكافحة الفساد، فغالباً ما تتخلى الحكومات عن الالتزام بها، ما يُعرِّض في نهاية المطاف الحقوق الأساسية مثل الصحة والتعليم للخطر”. وأنه على مدى السنوات العشر الماضية، أخفقت معظم الدول العربية في تحسين مواقعها على مؤشر مُدرَكات الفساد، فيما أُدرجت سبع دول عربية ضمن الدرجات العشر الدنيا لمؤشر مُدرَكات الفساد لهذا العام.
التقارير الرسمية، تكشف بما لا يدع مجالا للشك والريبة، أن تكاليف الفساد المرتفعة تتحملها الفئات الضعيفة، وأن الفساد يمتص ما بين 4 إلى 6% من مجموع الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يعادل خسارة 20 مليار درهم سنويا، وهو ما يؤثر على تقدم العملية التنموية في المغرب، ويكبح طموحاتها في تحقيق أفضل النتائج..
كما أن 68% من مقاولي المغرب يعتبرون أن الفساد منتشر أو منتشر جدا، وأن الحصول على التراخيص والمأذونيات والرخص الاستثنائية، والصفقات والمشتريات العمومية، والتوظيف والتعيين والترقية في القطاع الخاص، هي المجالات الثلاثة الأكثر تضررا من الفساد.
إن انسحاب فريق الحزب الحاكم، من الاجتماع الخاص بمناقشة ميزانية الهيئة، لا يغير من الأمر شيئا، كما أنه لا يستطيع تغطية الشمس بالغربال كما يقال، كما أن تعرض هيئة النزاهة لهجومات من قبل الحكومة وفرقها البرلمانية، وليس آخرها تصريحات لناطقها الرسمي مصطفى بايتاس، أو وزير العدل عبد اللطيف وهبي، لا يمنع من مأساوية التقرير السنوي الذي كشف ارتفاع معدلات الفساد في عهد حكومة أخنوش، وتراجع المغرب بشكل ملحوظ في مؤشرات مدركات الفساد.
فهل يستحي السياسيون، ممن يمثلون أحزاب الخردة، من تقويض مكانة وقيمة المؤسسات ومناكفة تقاريرها ومذكراتها، وتحقير مراصدها وتنظيراتها، لا لشيء إلا لكونها تعري عن نقائص واختلالات توجهات وأولويات من بيده سلط الحكومة وميازيبها؟، والهروب إلى الأمام، بعدم التركيز على القضايا ذات التأثير الأكبر على حياة الناس والصالح العام. إننا مطالبون اليوم، بمزيد من الشفافية والنزاهة في جميع مجالات الحياة العام، ولن تستطيع أي حكومة، مهما بلغت من التنطع والمجافاة وتجاهل الحتميات، أن تستشرف أفقا لنهضة الإنسان والمجال والعمران، دون الاعتراف بمكامن الأدواء، واستكشافها وتحويطها، قبل القيام بعمليات تنظيفها وإعادة تصحيح أنسجتها بالجراحة المستعجلة، إن تطلب الأمر ذلك، وكذا التقويم المفتوح على كل الانتظارات.