د مصطفى غلمان*
لم يستطع عقلي أن يستوعب الرقم المالي الضخم الذي أعلنت عنه الحكومة المغربية مؤخرا (2,3 مليار سنتيم ) والمتعلق بميزانية دعم برنامج مواكبة المقاولات وتشغيل الشباب، في مادتي الإشهار والمؤثرين الفايسبوكيين فقط، والذي أطلقته وزارة السياحة، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بمشروع لا يحتاج إلى كل هذا التبذير والضياع المروع، في ظل أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة.
هذه المذبحة المالية الخطيرة، أسالت مدادا كثيرا ولازال، ويطرح أكثر من سؤال واستفهام، حول مآل المئات من تقارير المجلس الأعلى للحسابات ومكاتبه الجهوية بالمملكة، عن نفس الانحرافات وما شاكلها، من استنزاف للمال العمومي وتغييب آليات الحكامة، ومراقبة ميزانيات الوزارات ومصالحها الخارجية؟، كالذي وقع الآن مع وزارة السياحة، التي يعيش ممتهنوها الضعفاء من فقراء الشعب ، تحت الظرفية المالية والاقتصادية الصعبة؟.
البرنامج الأسطورة “فرصة”، لا يمكن أن يجسد حلم طبقة اجتماعية هشة، تعاني تراكمات اجتماعية ونفسية جراء تداعيات مرحلة وبائية طبعها التفكك والانحسار والخوف من المستقبل. فالذين سيستفيدون من عرضه، غالبا ما سيؤثثون الفضاء الذي خصص للحفل المقام بالمناسبة (فندق مصنف هاي كلاس بالرباط)، بنوع من التردد والتيه، وكثير من التوق إلى البحث عن فواعل البرنامج، الذي سيرصد مبلغ 23 مليون درهم للترويج الإعلامي، و250 مليون درهم للشركة الوطنية للهندسة السياحية للمواكبة والتتبع؟.
والعجب العجاب، في هذه العملية التي حشرت فيها وزارة السياحة حشرا، دون أن يكون لها يد داخل محفظة وزارة الشغل، أن برنامج “فرصة” الذي استحدث لأجل تشجيع العمل المقاولاتي، باستهداف 10 آلاف من حاملي المشاريع في جميع قطاعات الاقتصاد، مع ضمان مبادئ المساواة الجهوية والمساواة بين الجنسين، هو نسخة شبه مطابقة لبرامج مماثلة سبق وتبنتها مصالح وزارية متعددة، وهيئات وجماعات، كالذي فعلته وزارة الاقتصاد والمالية، بإطلاق بوابة وطنية للدعم المقاولاتي، أو برامج الدعم التي أطلقتها الباطرونا، أو وزارة الشغل سابقا، عدا الوكالات المكلفة بإنعاش التشغيل في مجتلف الجهات والأقاليم والعمالات.
فما يضير، إن كانت “فرصة” منبثقة من هواجس الجهات وتحدياتها، وفقا لخصائصها وإمكانياتها وحاجياتها، سيكون من الأفيد والأنجع أن يتحقق سمو الفكرة ومضمارها داخل الجهات، مدعمة من الحكومة، وتحت رقابة السلط التشريعية والقضائية والتنفيذية؟.
عموما، فإن تخصيص 100 مليار، منها 90 مليار سلف، و25 مليار سنتيم تخصص لـ6 شركات، و23 مليون درهم موجهة للإعلام والترويج”، يدعو لإعادة صياغة الأهداف، من منطلقات بنيوية سليمة، يكون فيها المشروع مقاربا لشكل التنظيم ونجاعته، واقترابيته لنمط التغيير المالي واللوجيستيكي، مع الوقوف عند تأثيره الاجتماعي والاقتصادي، واستحقاقه في التدبير على كل المستويات.
المسألة الأخرى، التي تستتبع علاقة المشروع بعناصره القيمية والأخلاقية والمعرفية، ترتبط بما أسمته الوزارة الوصية ب”بالمؤثرين الفايسبوكيين”.
هل نحن ـ حقا ـ في حاجة إلى صرف ميزانية على ما أسميتموه ب”بالمؤثرين الفايسبوكيين”؟
من هم هؤلاء؟ وماذا يفعلون؟ وكم هو حجم تأثيرهم في نشر مفاهيم المشروع وإوالياته واستحقاقاته؟
الحقيقة، أن مجرد التفكير في تمطيط هذه المفهومية السوسيولوجية المتباينة، وجعلها قاعدة معيارية منتقاة لإنجاح مشروع “فرصة”، يراكم مخزونا استراتيجيا لمدى فعالية هذه النظرية، التي لا زال علماء الاجتماع، يكرسون جهودهم لتحليلها وإعادة تفكيكها، للوصول إلى نتيجة حاسمة.
صحيح أن هناك هامش، يزكي فرضية تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا فيما يتعلق بنقل الأفكار والآراء المتعلقة بقضايا عديدة وبوازع من أشخاص معينين، كما يمكن أن تتيح المجال لبلورة رأي عام لبعض هذه القضايا، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تغيير إيجابي معين، غير أنه يمكن أن يواجه هذه الصورة تحديات أخرى، تعكس إشكاليات مثيرة للخوف كالوقوع في فخ التضليل الإعلامي والتأثير السلبي في الرأي العام، في حالات يمكن حصرها مثلا في توظيفها بهدف تغيير قناعات أفراد المجتمع ما في اتجاه معين، اجتماعية كانت أو سياسية أو قيمية أو سلوكية.
لكن الأبشع في هذا الموضوع، أن يتم تجاوز الصحافة، كجهاز رقابي دستوري، وشريك اجتماعي وإعلامي قوي؟
من أشار لوزيرة السياحة والصناعة التقليدية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، السيدة فاطمة الزهراء عمور، بتمثيل مهمة الترويج الإعلامي لشركة مكلفة بالتواصل، دون استحضار الفاعل الإعلامي والصحافي المؤثر على أرض الواقع، إما أنه يريد إلغاء حجم التأثير الإعلامي الوطني، وتغييبه في نسيج المشروع؟ أو أنه يريد تعزيز رؤية ناقصة تجاه الإعلام وتأثيراته المباشرة في المجتمع؟ أو أن الجهل المركب في الحالتين، ينتج تباعدا مجهريا بين الوزيرة التي تمثل حزبا سياسيا، لا يجعل من أولوياته انخراط الإعلام والصحافة في التدبير عموما وسياساته؟ على أن القضية وبزيادة يمكن أن تتقاطع فيها المصالح بالنوازع الشخصية وسوء التدبير والقصدية المبيتة..؟
لا يمكن تقدير هذه المبادرة، بأحكام مطلقة، كما لا يمكن تأسيسها على إطلاق إيجابي لا يوازن قدرتنا على التفكير والاستنتاج السليم، لكنني هنا أؤكد اختلال الموازين، من كل الجهات التي قمنا بعرضها في هذه الكلمات المختصرات.
فالحقيقة القطعية، أن التبذير المالي تابت لا محالة، كما أن الاستعانة بمنتوج قيمي افتراضي، يتقاطع مع المعرفة، ومع انتظارات علمية بديلة، تجعل من التكنولوجيا الرقمية، كما أريد لها، شأنا أخلاقيا يكرس أصالة الفكر وسيرورته، وانبثاقه من علم مدرك، واجتهاد مشبع بالنظر والاعتبار..
هؤلاء المؤثرون الذين تم اختيارهم ، لا يجسدون حقيقة العمل المطلوب في مشاريع مستهدفة، تروم الانحياز للعقل واستبطان النظريات العلمية، ومجابهة الواقع، والتحقق من فعالية المعروض.
والذي أسبغ على هذه الفئة، التي يمكن أن تحوي زاوية ضوئية محدودة، صفة الاستبصار والتأثير والمبارزة، لا يعي مآلات تفويت “الفرصة” (التي أضحت هنا بلغة المغاربة “همزة”)، لمن هو أحق بذلك وأكثر. ولو شغل الإعلام بعضا مما استحقه ويستحقه في مثل هذه الحالات، لاقتصدنا في تأثيث “الفرصة” وتطويرها على كل واجهات النشر والرقابة والمتابعة والتوجيه والتربية ..وما إلى ذلك؟ ..
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن.