الصور التي نشرت لفقيدنا أحمد شوقي بنيوب، وهي تنعيه بدا فيها متحدثا ومتحركا في حديثه بيديه وعينيه… وتلك كانت حقيقته، بلا رتوش وبلا زيادة ولا نقصان…
كان في حياته متحدثا قويا، في السراء والضراء، على طول اليوم وعلى كثافة، عمق وتعقيدات القضايا والوقائع التي شكلت مادة كلامه، وانبرى لها موضحا أو محللا… الرجل كان صاحب «كلمة»، بالمعنى السياسي، الأخلاقي والعملي.. ويحرص أن يكون «قد كلامو قد دراعو»… كما ردد لسامعيه والمحيطين به دائما، ملتزما بتوصية والده السي عبد الكبير، رجل التربية المرموق في مراكش، والوطني الصلب، والذي اعتقله الإستعمار الفرنسي بداية خمسينيات القرن الماضي، في سجن لعلو بالرباط، وفي الزنزانة التي «سيقيم» فيها ابنه، أحمد شوقي، لأشهر سنة 1978…
تَدَفُّقُ الكلام منه ملفوفا في نبرات عالية وعلى ترددات حماسية، ودسما بحمولته الثقافية، مكنه من إيقاع خاص في سمفونية النقاشات و«حفلات» توليد الأفكار وفي موجات السجالات التي أثتت الجزء الأوسع من فصول حياة اليسار الجديد المغربي… سنوات سبعينيات، ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي أنتجت مبادئ وقيم معظمها ترسب وذاب في تجدد الثقافة السياسية المغربية وتطعيمها بالملموسية الديمقراطية من حيث المفاهيم، القيم والمؤسسات.. وسيكون في هذا التجدد فاعلا.. بالمقترح النظري، القانوني والحقوقي، وبالمبادرة العملية..
مشاركا، مبدعا، فاعلا ورياديا في مساره النضالي، السياسي والحقوقي، الذي بدأ بمنظمة 23 مارس السرية، في مراكش، وانتهى بتحمله مسؤولية المندوبية الوزارية لحقوق الإنسان… مرورا بنشاطه في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وفي حركة الشبيبة الديمقراطية التابعة لها، وفي مساهمته في جريدة «أنوال»، وفي المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وفي المرصد الوطني لحقوق الطفل. و… وفي هيئة الإنصاف والمصالحة، وأيضا عبر تجربته في مركز النخيل، بمدينة العيون، صحبة رفيقه المميز مولاي امبارك بودرقة (عباس)، بتكوين المئات من ضباط الأمن الوطني في ثقافة حقوق الإنسان… وطبعا «عبوره» من الإعتقال السري وسجن مكناس…
هي محطات، متعددة في حياته، وهي على تنوعها انتظمت على خط الديمقراطية وحقوق الإنسان… واعتمد فيها نبراسا له وطنه وتَشَبّعَ منها وطنيته، فضلا على وطنية الرضاعة التي تَشَرّبَها من والده..
لكأن الحياة كانت لديه مجرد تحمل للقضايا الوطنية الكبرى، في أبعادها السياسية والسيادية والإجتماعية.. منذ شبابه الأول، وفي لقاءاتنا الأولى، بداية سبعينيات القرن الماضي، في مناخ تأجج سياسي وثقافي لحركة اليسار الجديد، في مراكش، كنت أراه يتصرف فعلا وقولا، أكبر من سنه… يُفهِمُكَ أنه حِمْلُ قضية كبرى.. تستدعي الجهد والجدية… وبقي كذلك على طول أزيد من نصف قرن… وهو عمر العلاقة التي ربطتني به… والتي وإن فرضت الجغرافية، في مراحل، انقطاعات فيها، ظلت علاقة حارة، عائلية ورفاقية. واللقاءات بيننا ، مباشرة أو هاتفيا، متواصلة وإلى ثلاثة أيام، في المستشفى، قبل أن يُغْمِضَ عينيه ويتوقف النبض في جسده… إلى الأبد…
حياته، سيبقى منها ولدى كل معارفه وبالأكثر لدى خاصته، أنه كان زوجا محبا، أبا راعيا، أخا حنونا، رفيقا وفيا، صديقا ودودا… ومايسترو في مهامه، يفجر طاقات العمل في الدوائر التي أشرف عليها أو رأسها… وسيبقى منه لكل المغرب ولثقافة حقوق الإنسان ولسياساتها، أنه أبرز الخبراء اليوم، وطنيا، عربيا وإفريقيا، في قضايا ومقتضيات «العدالة الانتقالية»… إنه فيها موسوعة زاخرة بالمعرفة وبالدروس… موسوعة ستواصل، لغناها وإكراما لصاحبها، النبض، التنفس، الحركة والإفادة… ولن تَنْجَرَّ متاعا لصاحبها في رحيله الأخير.
الأربعاء 27 شتنبر2023… تحلقنا حوله… غرسناه في تربة وطنه الذي اتخذ حبه له عقيدة دثرناه بحبنا، وأشرعنا له قلوبنا لكي يحيا في شساعتها متدفئا. بحرارة ونصاعة ودوام ذكراه معنا وفينا…
طالع السعود الأطلسي ـ