قد يكون العالم حالياً أقل اعتماداً على النفط مما كان عليه وقت صدمات الطاقة في سبعينيات القرن الماضي، لكن الصراع في أوكرانيا دليل واضح على احتياج شديد للنفط يجعله لا يزال قادراً على إحداث اضطرابات في الاقتصادات وإرباك لصانعي السياسات وإثارة شقاقات على الصعيد السياسي.
فعندما دفعت حرب أكتوبر 1973 دولاً عربية لفرض حظر نفطي زلزل الأسواق العالمية ورفع التضخم لمعدلات فاقت العشرة في المئة، كان النفط يشكل ما يقرب من نصف مزيج الطاقة العالمي، وهي نسبة انخفضت منذ ذلك الحين إلى الثلث تقريباً.
وجاء هذا التحول مع زيادة تركيز الدول الثرية على الخدمات وزيادة كفاءة المصانع، وتحول الاعتماد في توليد الكهرباء على الفحم والغاز الطبيعي بدلاً من النفط.
وخلُصت دراسة أجرتها جامعة كولومبيا العام الماضي إلى أن ما كان انتاجه يتطلب قبل نصف قرن برميلاً كاملاً من النفط يمكن إنتاجه الآن بأقل من نصف برميل. بل إن بعض المحللين كانوا يتوقعون في السنوات الأخيرة ألا يجد الاقتصاد العالمي صعوبة في التعامل مع أي صدمات نفطية في المستقبل. وأشار آخرون إلى إجراءات الإغلاق المرتبطة بكوفيد-19 في العامين الماضيين كدليل على أن الاقتصاد يمكن أن يعمل، وإن كان بصورة مختلفة، في ظل انخفاض كبير لاستهلاك النفط.
لكن عودة الطلب على النفط بشراسة في 2021 وتصاعد أسعاره نتيجة الصراع في أوكرانيا يسلطان الضوء من جديد على مدى الجهد المطلوب ليتخلى الاقتصاد العالمي عن عادة الاعتماد على النفط التي تأصلت على مدى عقود.
وقال آلان غيلدر، نائب الرئيس لشؤون التكرير والكيماويات وأسواق النفط في «وود ماكينزي» للاستشارات المتعلقة بالطاقة، أن تحول الطلب على النفط أمر صعب على المدى القصير، لأنه يتطلب تريليونات الدولارات لاستبدال عناصر قديمة في البُنية التحتية مثل المَركبات والمعدات. وأضاف «ثمة حاجة للاستثمار في اتجاه تقليل الارتباط بين النشاط الاقتصادي والطلب على النفط».
وبددت أحدث زيادة في أسعار النفط، التي ارتفعت 50 في المئة منذ بداية العام، آمالا راودت البنوك المركزية العالمية العام الماضي في أن يكون التضخم الذي أذكت نيرانه حزم التحفيز المصاحبة للجائحة «مؤقتاً». بل أنها أوضحت بما لا يدع مجالاً للشك مدى تغلغل النفط في الآليات الداخلية للاقتصاد العالمي.
من البتروكيميائيات المستخدمة في المواد البلاستيكية أو الأسمدة إلى الوقود المستخدم لشحن البضائع حول العالم، تظل مشتقات النفط الخام مسؤولة عن جزء كبير من الزيادة التي يتكبدها المستهلكون حالياً في أسعار جميع أنواع السلع الأساسية.
ففي الولايات المتحدة، تشير تقديرات مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي) إلى أن كل عشرة دولارات تزيد في سعر برميل النفط تُذهِب بما نسبته 0.1 نقطة مئوية من نمو الناتج المحلي الإجمالي وترفع التضخم 0.2 نقطة مئوية. وفي منطقة اليورو، فإن كل زيادة مقومة باليورو في سعر النفط نسبتها عشرة في المئة ترفع التضخم في منطقة اليورو بما بين 0.1 و0.2 نقطة، حسب أبحاث البنك المركزي الأوروبي.
وبالتأكيد، يكون تأثير ذلك أكثر وضوحا في محطات الوقود.
فالدول المستوردة للنفط في أوروبا تهرع لتقديم خصومات على الوقود وامتيازات أخرى لقائدي السيارات، إذ تأخذ في الحسبان كيف يمكن أن ينتقل غضبهم إلى احتجاج أوسع نطاقاً كما كان الحال مع حركة السترات الصفراء في فرنسا عام 2018.
ومن المتضررين بشدة أيضا آسيا، فهي منطقة ليست فقط صاحبة أكبر طلب على النفط في العالم وإنما أيضا صاحبة أسرع نمو في الطلب. واليابان وكوريا الجنوبية من بين أولئك الذين يزيدون دعم الوقود لتخفيف أثر ارتفاع الأسعار.
أما الولايات المتحدة، أكبر منتج للنفط في العالم، فيجب أن تكون محمية بشكل أفضل من غيرها. فقد أشار رئيس بنكها المركزي جيروم باول يوم الإثنين الماضي إلى أن البلاد باتت أقدر بوضوح على الصمود في مواجهة الصدمة النفطية مما كانت عليه في السبعينيات.
لكن هذا لم يمنعه من توجيه أقوى رسائله حتى الآن فيما يتعلق بمعركته مع التضخم البالغ الارتفاع، إذ أشار إلى أن البنك المركزي يمكن أن يتحرك «بشكل أكثر قوة» للحيلولة دون تفاقم دوامة زيادة الأسعار.
إذا كان الأمر قد استغرق خمسة عقود حتى تنخفض حصة النفط في مزيج الطاقة العالمي من 45 في المئة إلى 31 في المئة، فسيظل السؤال مطروحاً عن مدى السرعة التي يمكن للعالم أن يقلّص بها هذه الحصة، لا سيما وأن لديه الآن هدف معلن بتحقيق حيادية الكربون.
ومن المتوقع أن يمثّل تحول قائدي السيارات إلى المركبات الكهربائية نقطة تحول في الطلب العالمي على النفط تدفع أسعاره للهبوط. فسيارات الركاب هي القطاع الأكثر استخداما للنفط، إذ تبتلع حوالي ربع النفط المستهلَك في أنحاء العالم.
وقال سفارّا أولفيك، مدير برنامج تحول الطاقة لدى شركة استشارات الطاقة «دي.إن.في» التي تتوقع أن تمثّل السيارات الكهربائية 50 في المئة من مبيعات سيارات الركاب الجديدة خلال عشر سنوات «كثافة الطلب على النفط ستنخفض من الآن فصاعداً بشكل أسرع مع بلوغ الطلب العالمي على النفط ذروته في غضون السنوات القليلة المقبلة، وبالتالي سيتراجع بينما يستمر الناتج المحلي الإجمالي في النمو».
لكن هذا ليس سوى جانب واحد من القصة. فتزايد الطلب على النفط في آسيا، بالإضافة إلى حقيقة أن قطاعات رئيسية مثل النقل والطيران والشحن والبتروكيميائيات متأخرة كثيراً عن قطاع السيارات في التحول إلى الوقود البديل تعني أن عوامل كبيرة للطلب على النفط لا تزال راسخة بقوة.
وفي مذكرة صدرت عام 2019 بعنوان «العالم لا يمكنه الاسترخاء أمام أمن النفط»، قال محللو «وكالة الطاقة الدولية» في باريس «توقعاتنا تشير إلى أن الاعتماد على النفط، وخاصة النفط المستورد، لن يتبدد سريعاً على الأرجح». وتشير مثل هذه التوقعات إلى أن انتقال العالم من النفط ومصادر الوقود الأحفوري الأخرى سيشكل تحديات جديدة للمستهلكين وصُنّاع السياسات على حد سواء، حتى في أكثر التصورات تفاؤلا.
وهذا الشهر، استخدمت إيزابيل شنابل عضو المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي مصطلح «التضخم الأحفوري» للإشارة إلى ثمن ما وصفته «بتكلفة إرث الاعتماد على مصادر الطاقة الأحفورية».
وترى شنابل أن جزءا من هذه التكلفة ينبع من زيادة تكلفة الوقود الأحفوري (الفحم والنفط والغاز) نتيجة سياسات مثل تسعير الكربون، لكنه ينبع في جانبه الأكبر من قدرة منتجي الطاقة على اصطناع حالة شُحّ في الأسواق لرفع الأسعار على حساب المستوردين.
وعندما يُضاف إلى ذلك الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة وبريطانيا على النفط الروسي، وهدف أوروبا خفض وارداتها من الغاز الروسي، ترى شنابل أن «حدوث تراجع ملحوظ في أسعار الطاقة من الوقود الأحفوري، وحسب ما تشير إليه الأسعار الحالية للعقود الآجلة، يبدو بعيداً إلى حد ما من هذا المنظور». رويترز