ـ الجامع الأعظم أو جامع المنصور ـ
معلمة من المعالم التاريخية الرائعة، إذا أردنا الحديث عنها باقتضاب كبير، فسنجدها تضاهي في عمقها التاريخي جامع الكتبيين ومنارته، وصومعة حسان بالرباط، ومنارة الخيرالدا بإسبانيا، إنه جامع المنصور أو الجامع الأعظم الذي بناه يعقوب المنصور الموحدي بمدينة القصبة الموحدية، حيث كان يعتبر أكبر جامع بإفريقيا، وقد تحول على عهد الدولة الموحدية إلى جامع رئيسي بدل جامع الكتبيين، وكانت تقام به صلاة الجمعة، ويعتمد في ضبط مواقيت الصلاة بالمدينة حسب ما أشار إليه الدكتور محمد رابطة الدين في كتابه “مراكش زمن الموحدين” نقلا عن كتاب “أخبار أبي العباس السبتي”، وإلى جانب هذه القيمة الدينية لهذا الجامع، فهو معلمة معمارية تنم عن عمق المغاربة التاريخي، في مجال العقيدة والعمران والثقافة والفنون وغيرها من المجالات التي تقاس بها حضارات الشعوب والأمم عبر التاريخ.
وقد مرت بهذا الجامع أحداث جسام يذكرها التاريخ، منها حادث الانفجار المشهور الذي حدث داخله على عهد السعديين، والذي تأثرت به صومعته إلى اليوم، كما أنه شهد في سنة 1790 مبايعة السلطان العلوي المولى اليزيد، الأمر الذي ساهم في تغيير اسمه من جامع المنصور إلى جامع مولاي اليزيد تيمنا بهذا السلطان الذي بويع به وأعاد ترميمه، كما أنه شهد عملية ترميم جديدة استمرت حوالي السنتين، حيث تعطلت به الصلاة، وظل ساكنة مدينة القصبة يبحثون عن جوامع أخرى للصلاة بها خاصة أيام الجمعة، مما ترتب عنه عنت ومشقة كبيرة خاصة بالنسبة لكبار السن، ومع ذلك كان كل الساكنة يتفاءلون خيرا ويقولون بأن الإصلاح يتطلب الصبر، لكن الصدمة كانت مذهلة عندما فتح الجامع أبوابه بعد الإصلاح المزعوم، فوجدوا أن الجبل تمخض فولد فأرا، ذلك أن الذين تكلفوا بالإصلاحات أحدثوا بهذا الجامع فسادا عظيما لا يمكن أن يستسيغه عاقل، فإذا استثنينا بعض الطلاء الرخيص مع قشرة من الجص سرعان ما
بدأت تتساقط بمجرد الاحتكاك به، فإن المشاهد البسيط لا يلاحظ أي أثر للإصلاحات التي ادعت الوزارة المعنية أنها قامت بها، وأنفقت لأجلها أموالا طائلة، وعطلت الصلاة بهذا الجامع لمدة طويلة جدا، زيادة على ذلك، فقد لاحظ السكان أن حنفيات الوضوء قد كسرت، وهي حنفيات تاريخية ثمينة، وذلك تمهيدا لنقلها من مكانها نحو أمكنة أخرى يعلمها الله تعالى، لكن الأمر تعذر على الذين حاولوا القيام بهذا الجرم في حق هذه المعلمة التاريخية، وباءت محاولاتهم بالفشل الذريع، إضافة إلى أن الذين كانوا يقومون بأشغال الإصلاح المزعومة بهذا الجامع، كانوا يعملون كأنهم يصلحون دارا للسكن، وليس معلمة حضارية ضاربة في أعماق التاريخ، حيث طمسوا العديد من المعالم التي تؤشر على البعد
التاريخي والحضاري لهذا الجامع، مثل النقوش التي كانت على جدرانه، والآيات القرآنية التي كانت على الأبواب، وأخذوا أحجارا كبيرة كانت توضع على أبوابه حتى لا تغلق بطريقة تلقائية، وهي أحجار سوداء نادرة تسمى (الزّرْزْبَانْ)، وليعلم الله الآن مكانها وأين استقرت، زيادة على منبره العتيق الذي قيل بأنه ذهب إلى المتحف حفاظا عليه، وما خفي كان أعظم، وسنعود له في مقالات قادمة بحول الله تعالى، وأعظم مصيبة أصيب بها هذا الجامع، وجعلت الناس منذهلين، هي قيام دعاة الإصلاح هؤلاء بهدم كل المرافق الصحية التابعة له، ومحوا معالمها، وكانت هي المرافق العمومية الوحيدة التي توجد بهذا الجامع بل وبمدينة القصبة أجمعها، وبذلك انعدمت أمكنة الوضوء نهائيا، مما منع العديد من الناس ـ خاصة زوار المدينة وضيوفها ـ من أداء الصلاة في وقتها، فبالله عليكم هل يقبل عقل عاقل هذا الوضع، وأن نُحدث الناس عن جامع تاريخي يعود إلى العصر الموحدي، وكان إلى عهد قريب جدا يعتبر من أكبر الجوامع بإفريقيا كلها وليس به مرحاض للوضوء؟، إنه الهراء بل الحمق بعينه.
وفي الآونة الأخيرة ـ بعد الزلزال الذي ضرب مدينة مراكش وأحوازها ـ تأثر الجامع بهذه الهزة الأرضية، كما تأثرت صومعته، وسارعت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى إغلاق أبوابه من أجل إعادة إصلاحه، شأنه في ذلك شأن مجموعة من المساجد الصغرى بالحي، وقُطِع الآذان عن الحي، وعُطلت الصلاة فيه الشيء الذي شكل عبئا كبيرا على الساكنة الذين ظلوا طيلة شهر رمضان وحتى قبل دخول الشهر الفضيل، يبحثون عن مكان من أجل إقامة صلاة التراويح، وبقي الكل ينتظر الفرج وساعة إتمام إصلاح الجامع، وعودته لتأدية وظيفته الدينية، وبعد مدة طويلة جدا، حلت به فرقة من العمال قاموا بتسييجه من الداخل والخارج، واستبشر الناس خيرا اعتقادا منهم أن هذا مؤشر على بداية الأشغال فيه، ولم يدر بخلد أحد أن العملية ليست إلا تمويها، ووضع الجامع رهن الاعتقال، حيث وإلى حدود كتابة هذه السطور، لم تتحرك أشغال البناء، ومأساة المصلين خاصة كبار السن منهم تفاقمت، والوزارة المعنية في صمتها وجمودها المطبقين، وكأن الأمر لا يعنيها، والساكنة تطرح سؤالا مفاده: متى ستلتفت وزارة الأوقاف لهذا الجامع التاريخي العظيم وتفتح أبوابه؟، متى ستقدم وزارة الأوقاف على إصلاح حقيقي وجاد لهذه المعلمة التاريخية وألا تكون فقط إصلاحات ترقيعية؟،
فمن بين مطالب الساكنة: أن يكون هناك ممر للمعاقين يمكنهم من الدخول للمسجد بسهولة، كما تطالب الساكنة بخزانة داخل المسجد تساهم في نشر الثقافة والعلم والفرائض وغيرها، زيادة على استئناف دروس محو الأمية كما نادى بها صاحب الجلالة نصره الله، حيث كل هذا يسهم في عودة المسجد إلى أدواره الدينية والعلمية التي كان يلعبها منذ أزمان، ويسهم في قطع الطريق عن الفتاوى المضللة والتي تزرع الانقسامات بين صفوف المسلمين، إن الساكنة تستغرب هذا الإهمال والتقاعس الحاصل من طرف الوزارة الوصية على الجامع، والذي جعلها لا تبادر لإتمام هذه الإصلاحات التي لا تتطلب أكثر من شهر واحد، وتفتح أبواب الجامع، وتتخلص من أعباء الماديات التي تصرفها يوميا كأجرة لتلك الألواح التي تسيج المسجد داخليا وخارجيا كما يلاحظ في الصور، علما من أن الجزء المتضرر بكثرة من الزلزال الأخير هو الصومعة فقط، والباقي لا ندري لماذا يتم تهويله وتضخيمه.
إنها صيحة من ساكنة حي القصبة تتمنى أن تجد آذانا صاغية من السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، علما من أن ضرر هذه الوزارة على مساجد مدينة القصبة أكثر من نفعها، وسنقدم لاحقا الأدلة الدامغة على ما نقول.
يتبع …..