صدر للباحث المغربي الدكتور عبد الصمد الكباص عن دار إفريقيا الشرق عمل جديد يحمل عنوان : ” الشاشة و الورق، ميديولوجيا الصورة و النص في الصحافة زمن الانتقال الرقمي”، يقدم فيه معالجة فكرية للقضايا المرتبطة بالانتقال من الحامل الورقي إلى الحامل الإلكتروني، من وجهة نظر ميديولوجية تدرس الوَقْع الثقافي لتغير الوسائل المادية المهيمنة في تخزين الأثر و توزيعه.
و ينطلق صاحب العمل من فكرة أن المهمة المنسوبة للصحافة و المتمثلة في نقل الأخبار، لا تدل إلا على جزء سطحي من مهمتها الجوهرية، فهي لا تكتفي بصنع الأخبار، و إنما تخلق “الشيء الاجتماعي” و تستديم وجوده. إنها، كما يقول في مقدمة الكتاب، حقل لإنتاج العام، عبر آليات خاصة تتحمل فيها الصورة والنص بالدرجة الأولى القسط الأوفر من هذه العملية المعقدة. و هذا يعني أن الواقع يشرع في العمل باعتباره وظيفة، انطلاقا من ممارسات الصورة و النص التي توفرها الصحافة والإعلام و التي تجعل ” الكلام العمومي” و(la parole publique) ينطوي على ارتباط حميم بالنظرة المعممة التي تفرضها ممارسات الصورة، و التي لا يكون الواقع المدرك على أنه كذلك، إلا اشتقاقا منها.
و يعتبر الباحث عبد الصمد الكباص في كتابه أن هذه الممارسات المتعلقة بالنص و الصورة، التي من خلالها يصبح الواقع قابلا للاستهلاك، و يحظى بوضعه ككيان معرف، بواسطة التثبيت النسبي الذي تفرضه هذه الممارسات التي تنقل الوقائع من أحداث زائلة و غفل، إلى وقائع مشتركة بعد انتزاعها من مجرى الزمن و تخزينها في اللغة و الصورة، لا تتعلق بالقدرات الخاصة لكل من الصورة و النص في حد ذاتهما، ولكن تترتب بشكل وثيق عما يتيحه الحامل المادي ( ورق، جهاز إلكتروني..) من إمكانات لإطلاق طاقات مفاجئة و مؤثرة لكل منهما. لذلك كان الانتقال من زمن ينتظم حول حامل مهيمن إلى زمن ينتظم حول حامل آخر، انتقالا من حضارة إلى أخرى. لأن الحامل أو الوسيلة المادية لتخزين الأثر و توزيعه، لا يكتفي بدور الوسيط، وإنما يعين الوسط ( بمعناه الإيكولوجي) الذي يحدد مسبقا إمكانيات قيام مبادلات رمزية échanges symboliques مثلما يحدد مفعولها. فكل حامل (اي الوسيلة المادية المعتمدة في تخزين الأثر و توزيعه) يأتي محملا بقطائع حاسمة تمس طرق التفكير و التواصل وإمكانات الفعل.
و يلاحظ صاحب العمل أنه من المؤكد كما تظهر ذلك التجربة المباشرة، أن الانتقال من الورق إلى الفضاء الرقمي، هو انتقال في المنطق الحضاري لتشغيل النص و الصورة، لكنه يتجاوز ذلك. فهو إذ يعين انتقالا في طرز بناء الذاكرة و تسجيل الأثر، يحدد أيضا إمكانات الحقيقة و ما يُفترض الخضوع له باعتباره حقيقة. ويقول في هذا الصدد” صار ت إمكانات التكنولوجيا الرقمية و هي تستحوذ على وظيفة تخزين الأثر، أي إنتاج الذاكرة، تعين طرقا جديدة لتولد الذات التي أضحت تتعرف على نفسها من خلال تموقعها الرقمي في الفضاء الإلكتروني مستنتجة حضورها الفعلي في العالم و مشاركتها فيه، من خلال الحصيلة الكمية من علامات الإعجاب التي تحصل عليها في حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي. مثلما صارت قناعتها تُبنى من خلال حجم المشاركة (partager) الذي توفره هذه التطبيقات على التجهيزات الذكية. بمعنى أن إمكانات الذات صارت محددة بما تتيحه تطبيقات التكنولوجيا الذكية التي توجد في متناول اليد. إذ غدا هذا المسلسل السريع لمضاعفة الذات في بديل رقمي، تعميقا لذلك التصور الذي أضحت معه الذات تطبيقا معلوماتيا، حسب الصياغة التي قدمها لوشيانو فلوريدي، و الذي يعزز طبيعتها المعلوماتية انطلاقا من مبدأ جون أرشيبالد ويلر John Archibald Wheeler ” الشيء من البيت”(it from bit) و الذي يعني أن كل الأشياء المادية هي نظريا معلومات في الأصل.”
و تحفل معالجة الكتاب للموضوع الذي جعل مجاله الاختباري الصحافة المغربية، بحزمة من المفاهيم كالتموقع الشبكي و الاستقطاب الإلكتروني للأخبار و النظام الورقي و درومولوجيا النص المبتلع في الصورة، وتزامنية اللامتزامن، و سلطة الفيديو و عودة الشفهي، بنية الاستعجال و المشاركة…
و تقوم الرؤية المنهجية التي اعتمدها صاحب العمل لمعالجة موضوعه استنادا لمبادئ الميديولوجيا العامة ، على فكرة أن كل تغيير في الحامل يلحق تعديلات جوهرية في الرسالة . فالانتقال من الحامل الورقي إلى الحامل الإلكتروني لا يحافظ على ذات الخطاب، و لا يرسخ ذات الهوية. لأن الحامل ليس وسيلة محايدة، إنه بالأحرى مجال قيمي و شرط تحقق.. و يؤكد في هذا الصدد أن همه الأساس هو التعامل بجدية مع سؤال الحامل و اشتغاله كشرط لتحقق أبنية للصورة و النص في الصحافة، و رصد التحولات التي تطال هذه الأبنية عند الانتقال من الحامل الورقي إلى الإلكتروني.
وانطلاقا من الرؤية الميديولوجية المذكورة يحاول الكتاب الإجابة عن مجموعة من الأسئلة منها: كيف تدبر هذه العلاقة بين كيانين مختلفين هما الصورة و النص، أحدهما معد للقراءة والثاني للنظر، الأول يستكشف من خلال توسطات اللغة و تعاقدات الكتابة و دوائر التمثيل المتربة عنها، و الثاني يفيض من خلال مباشرة حسية، و يحقق أفقه الدلالي عبر كيانات الألوان و الأشكال و تدرج الضوء وزوايا ضبط الإطار و غيرها؟ كيف تتحقق هذه العلاقة من خلال الحامل الورقي في الصحافة؟ و ما الحدود التي تمليها الصفحة الورقية من حيث كونها مكانا نصيا، على هذه العلاقة، و أية طاقة تأويلية متبادلة تحررها بينهما، أي الصورة و النص؟ ما الذي يتغير في هذه الأبنية عندما تنتقل إلى الشاشة الإلكترونية، و تدرج في بنية الاستعجال التي تحكم منطق الشبكة؟ ما الآثار المترتبة عن إمكانيات الربط السريع بين النص و الصورة و الصوت التي توفرها الشبكة، على هذه الأبنية؟ و ما التحولات التي تطرأ عليها عندما تصير الشبكة بيئة معلوماتية لعملية لإخبار(l’acte d’informer)، محددة بتحفيزات الأجهزة الذكية و تزايد تأثير الشبكات الاجتماعية بوصفها مجالا لتحقق ظاهرة الاستقطاب الإلكتروني للعمليات الإخبار، أي لعمليات بناء النص و الصورة بغاية إخبارية؟ ما الذي يتغير في هذه الأبنية عندما يتدخل الفيديو(vidéo)، في عمليات ربط سريع مع النص؟ و ما تأثير هذه العوامل الجديدة التي تتيحها الأجهزة، في أبنية الصورة و النص ، من مثل خيارات المشاركة (partager ( و النقل (copier) و الإلصاق (coller) و الحذف (supprimer)؟
و يشدد صاحب العمل على أن استدعاء الرؤية الميديولوجية كخلفية للتفكير في العمليات المعقدة لإنتاج العام من خلال الصورة و النص عبر متغير الحامل الذي يمثل وسما لعتبة انتقال عميقة، يأتي ردا على جوانب القصور التي تظهرها المعالجات السائدة للصحافة بشكل عام. إذ أن الصحافة الإكترونية ما زالت تُأخذ على أنها ظاهرة جديدة، و النص يُنظر إليه على أنه بناء مستقل عن الحامل، و الاهتمام بالصحافة بشكل عام ينصب بالدرجة الأولى على أنها ممارسة نصية تقوم فيها الصورة بدور هامشي، رغم تضخم الحديث عن قوة و نفوذ و سلطة الصورة. كما أن الممارسات الإخبارية المنجزة من قبل مستخدمي الإنترنيت، في شكل تدفقات هائلة من النصوص و الصور عبر الفايسبوك (facebook) والتويتر (twitter) و الإنستغرام (instagram) و اليوتوب(youtube) و الواتساب (whatsapp)، و التي تدخل عموما في نظام الشبكات الاجتماعية، لم تدمج لدينا (في الفضاء العربي) بجدية ضمن الاهتمام العلمي، ما عدا بعض الدراسات المنجزة من زاوية تأثيرها السياسي. و يخلص إلى أن هذا العمل، و إن كانت الصحافة موضوعه الأساسي، محاولة للتفكير في الشرط الجديد للكائن الإنساني و هو يضع نفسه في العالم الذي يشمله، و عبر المحتوى الذي منه يتحدد هذا العالم نفسه، في ما يُرى و ما يُقال، في هذه الازدواجية التي أدخلت التمثيل إلى عصر جديد صار فيه ما يُمثِل و ما يتمثل و ما يُمثَل من طبيعة واحدة، بعدما أضحت التكنولوجيا الرقمية الفاعل الثقافي الأول، الذي وحد الوسيلة و المحتوى في جوهر معلوماتي واحد. إن الأمر في العمق ـ كما يقول صاحب الكتاب ـ يتعلق بمصير هذه الذات التي صار لها صنو رقمي أصبح من الصعب عليها أن تميز نفسها عنه.