خديجة السويدي
في إطار سلسلة الأنشطة التكوينية التي يسطرها مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية لفائدة طلبة الدكتوراه منتصف كل شهر عقد هذا الأخير لقاءه التكويني الأول يوم الجمعة 04 فبراير 2022 بقاعة ماستر الهندسة الثقافية الكائنة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك. وقد حضر هذا اللقاء طلبة باحثون من مختلف الجامعات والتخصصات والتكوينات.
وقد افْتُتِح هذا اللقاء التكويني الأول بكلمة الأستاذ والدكتور عبد العلي معزوز الذي عمل في البداية على موضعة مداخلة كل من الأستاذ الدكتور محسن الزكري الموسومة ب ”البلاغة والتأويل: تصورات فلسفية“، والطالب الباحث عادل بنملوك الموسومة ب ”الفيلولوجيا مدخلا للتأويل الفلسفي عند نيتشه“ ضمن أنشطة مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات الأدبية والفنية المُسطرة، مسبقا، للطلبة الباحثين بصفة عامة وطلبته بصفة خاصة، مؤكدا على أن المداخلتين معا تندرجان ضمن علاقة الفلسفة بالبلاغة وعلاقة الفلسفة بالتأويل، مُمررا، بعد ذاك، الكلمة للأستاذ الدكتور محسن الزكري الذي انطلق في مداخلته الموسومة بـ ”البلاغة والتأويل: تصورات فلسفية“ من الإشارة إلى مجموعة من المواقف التي قد تعطي في نظره فكرة مسبقة عما يمكن أن تكون عليه مشكلة العلاقة بين التأويل والبلاغة، وقد انطلق في ذلك من موقف أمبرتو إيكو الذي قال ”إن مصطلح البلاغة قد سقط، اليوم، من دون شك في الاهمال واكتسب دلالات من الخواء المتعجرف“، مؤكدا على أن النقد الذي وجهه أمبرتو إيكو للبلاغة – على الرغم من انطلاقه من خلفية سيميائية أو خلفية هرمنيوطيقية – يعطي فكرة عن مقدار الإشكالية التي تمثلها بالنسبة إلى الفكر البشري. مرورا بموفق كانط الذي أخرج البلاغة أو الخطابة من دائرة الجميل لأنها – في نظره – تصادر الحرية أو تستخدم الجميل لأجل غايات غير جميلة، ومصادرة الحرية في نظره لا يمكن أن تخلق خطابا يمكن أن نعده جميلا. وصولا إلى موقف كل من غادامير الذي ألح كثيرا في حوار من الحوارات التي قام بها في أواخر حياته مع جون غروندان على أهمية البلاغة وأهمية العودة إليها، لأنها بالنسبة إليه هي التي تخلق ذلك الأفق الرحب للحوار، وهي التي تجعل من الحوار حوارا، فالحوار اليوم – كما يؤكد على ذلك- لا يمكن أن يكون إلا حوارا بلاغيا على نحو يجعل من البلاغة أفقا لتداول الكلام من جهة وأفقا للابتعاد عن الدوغمائيات وخاصة الدوغمائيتين المنطقية والإيديولوجية. وموقف جون غروندان الذي أشار إلى أن أفق اليوم لحلم الحوار الذي يروم أن يتخذ طابع الكلية والكونية لا يمكن أن ينفصل عن كليتين أو كونيتين: كونية التأويليات وكونية البلاغة. توصل الأستاذ والدكتور محسن الزكري من عرضه لهذه المواقف الأربعة إلى أنها مواقف متباينة، فالموقفان الأوليان يريان في البلاغة ذلك الشر الذي يجب أن نتخلص منه، والموقفان الثانيان يريان في البلاغة ذلك الأفق الذي يجب أن نتعلق به، وتساءل حول العلاقة أو الأواصر التي يمكن أن تجمع بين هذين المجالين المعرفيين.
يرى الأستاذ محسن الزكري أن الذين يُنظرون لمسألة العلاقة بين التأويليات والبلاغة في الغالب يعودون إلى القرن 16، ويعودون إلى التقاليد البروتستانتية ويرون أن ظهور المطبعة شكل المنعطف الحقيقي الذي تقاطعت فيه البلاغة بالتأويليات، ويرون أن المنعطف اللغوي الأنطولوجي يشكل المنعطف الثاني في تاريخ هذه العلاقة، لكن الإرهاصات الأولى – كما يؤكد على الأستاذ الزكري- للعلاقة بين التأويل والبلاغة تعود إلى المرحلتين اليونانية والرومانية غير أنها لم تكن واضحة في المرحلة الأولى مثل وضوحها في المرحلة الثانية مع القديس أغسطين. وقد عاد رولان بارت بالبلاغة إلى القرن الخامس قبل الميلاد لأن البلاغة قد ظهرت في هذه الفترة كممارسة تنظيرية وعلم تنظيري مؤكدا على أن هذه البلاغة قديمة قدم الإنسان كممارسة وليس كمجال معرفي. وقد نبه الباحث في سياق حديثه عن العلاقة بين البلاغة والتأويل إلى مسألة متعلقة بما هو اصطلاحي مشيرا إلى أن البلاغة ليست ترجمة لكلمة ريطوريقا لأنها لا تطابق على نحو دقيق مصطلح البلاغة كما هو متداول في العالم العربي، مؤكدا في نفس السياق على أن الخطابة تشكل جوهر البلاغة عند اليونانيين، والثابت فيها هو الإقناع الذي يشكل جوهر الاهتمام البلاغي اليوناني؛ مما يجعل البلاغة تعنى أساسا بجانب الإنتاج والتأويل الذي يعنى بجانب التلقي كما أشار إلى ذلك شلايرماخر.
رصد الدكتور محسن الزكري أواصر العلاقة بين البلاغة والتأويليات في البلاغة اليونانية على مستوى الجدر اللغوي، إذ رأى أن الدراسات التي تهتم بالتنظير للتأويليات أو للهيرمنيوطيقا تعيد المصطلح إلى كلمة هيرمينيا، وكلمة هيرمنيوس التي تعني رسول الآلهة الذي كان ينقل في الميثولوجيا اليونانية المعرفة من الآلهة ليوصلها إلى الإنسان، وهذا الفعل – كما يقول الباحث – هو فعل وممارسة هيرمنيوطيقية وتفسيرية، وترجمة وتأويل للعبارة الإلهية – كما تسمع وتفهم – على نحو بشري. وهذه الترجمة التي تصوغها في قالب بشري هي التي تشكل البعد الهيرمنيوطيقي أو البعد التأويلي لهذه العلاقة الرسولية في الأساطير اليونانية. هذا البعد هو الذي يسميه سليمان بشير ديان بالبعد العمودي لكونية الترجمة؛ ففي الترجمة بعدان: بعد عمودي وهو الذي كان يمارسه رسول الآلهة، وبعد أفقي وهو الذي يمارسه الإنسان بين الثقافات المختلفة بنقله للكلام من لغة إلى لغة. يؤكد الدكتور الزكري على أن عملية النقل هذه من كلام إلى كلام هي فعل بلاغي، وفعل الفهم الذي كان يمارسه رسول الآلهة هو فعل تأويلي، مشيرا إلى أن ربط الهرمنيوطيقيا بكلمة هيرميس هو مسألة شائعة في الدراسات الهرمنيوطيقية المعاصرة وقد أشار إليها هايدغر نفسه. ويرى الأستاذ محسن الزكري أن المعنى الذي استعمله أرسطو لكلمة هيرمينا والذي تمثل في التعبير والتواصل يقترب من فكرة التقاطع بين الصياغة البلاغية وممارسة التأويل.
انتقل الدكتور محسن الزكري، بعد ذلك، إلى بحث العلاقة بين البلاغة والتأويل في المرحلة الرومانية وبالضبط في الفترة التي عاش فيها القديس أغسطين (القرن الخامس الميلادي)، مشيرا إلى فضل هذا الأخير على اللغة في الفكر الغربي؛ فهو الذي أعادها إلى حضن التفكير الفلسفي، وهو الذي أعاد إليها، أيضا، تلك الأهمية التي تجعلها قادرة على المساهمة في الإبداع الفلسفي، والتي سلبتها النزعة الاسمية من اللغة بالنظر إليها على أنها حاملة للفلسفة لا منتجة لها. وهذا التغييب للغة – كما يقول الأستاذ الزكري – هو الذي يسميه غادامير وجون غروندان بنسيان اللغة في الفكر الغربي، وهو نسيان سيظل ممتدا عبر عصور إلى أن يأتي القديس أغسطين الذي أعاد إلى اللغة وهجها وأهميتها. وقد أشار تودوروف في محاولته التنظيرية لتاريخ السيميائيات إلى أن المؤسس الأول لهذا المجال المعرفي هو القديس أغسطين مؤكدا على أن هذا التأسيس قد تحقق بفضل إدماج البلاغة في صلب التأويليات الذي تحقق بدوره بفضل التدقيق في مستويات المعنى في الكتاب المقدس، فالتراث البلاغي قد اهتم بالتمييز بين معاني الإنجيل وخصوصا بين المعنى الحرفي الظاهري والمعنى الرمزي المجازي، فاللغة لم يعد ينظر إليها بوصفها حاملة للفكر فقط ولكن بوصفها، كذلك، منتجة للفكر، ويتجلى هذا الإنتاج – حسب الدكتور محسن الزكري – في فكرة التجسيد بالنسبة للعقيدة المسيحية التي تعني تطابق مكونات الثالوث (الله، الابن، الروح القدس)، فالفكر والكلام يطابق حسب غادامير العلاقة الإلهية للثالوث الذي يشكل، رغم اختلاف عناصره، وحدة، ويطابق في اتحاده، أيضا، الدال والمدلول. وقد أكد الدكتور محسن الزكي في صدد حديثه عن العلاقة الاتحادية بين بين الله والابن أو بين الفكر والكلام أو البنية السطحية والبنية العميقة على ”الحدثية“ بوصفها حدثا تكشفيا يتحقق في الاندماج أو الاتحاد بين العناصر السالفة الذكر، وهذا الحدث الذي تحقق بين الله والابن في الفكر المسيحي يماثل التكشف الذي يقع في اللغة.
انتقل الدكتور محسن الزكري إلى المرحلة البروتستانتية ليتوقف في رصده للتحول الذي طرأ على تاريخ العلاقة بين التأويل والبلاغة عند جون أرتوس الذي رأى أن هذه العلاقة قد بدأت حقيقة مع الإصلاح البروتستانتي ومع ظهور المطبعة وقبلهما لم تكن هناك تأويلية حرة، بل تأويلية مقيدة، فتأويل الكتاب المقدس – كما يشير إلى ذلك الباحث – كان محصورا عند نخبة بعينها تحتكر تأويله ومن ثمة معناه، وتمتلك مكتبة تساعدها على تأويله. لكن ظهور المطبعة – كما يرى الدكتور محسن الزكري – قد أحدث نوعا من التحرير للممارسة التأويلية بحيث أصبح كل إنسان بمقدوره أن يحصل على نسخة من الكتاب المقدس وأن يتأملها ويفكر فيها بطريقته الخاصة، كما يمكنه بفضل اتساع انتشار الكتب والمكتبات من توسيع الآفاق المعرفية التي يمكن من خلالها النظر إلى الإنجيل. فجون أراتوس في نظر الدكتور الزكري قد حدد انعطافين مهمين في تاريخ العلاقة بين البلاغة التأويل، تمثل الانعطاف الأول في الانعطاف البروتستانتي وظهور المطبعة أما الانعطاف الثاني فتمثل في الانعطاف الأنطولوجي اللغوي. في هذا المنعطف ستستعمل كلمة هيرمنيوطيقا على يد أحد أتباع مارتن لوثر وهو كونراد دانهاور سنة 1654، وستترسخ تقاليد جديدة في تأويل الكتاب المقدس تلح على الكلمة التي هي مشتركة بين البلاغة بوصفها ممثلة للائتلاف والتأويل بوصفه ممثلا للاختلاف. يشير الدكتور الزكري في هذا الصدد إلى أن الذين مارسوا التأويل في هذه الفترة قد عادوا إلى كتاب ”الخطابة“ لأرسطو قصد إضفاء طابع بشري على التأويل ليكون بشريا كما يؤكد على ذلك ميلنكتون.
توقف بعدها الدكتور محسن الزكري عند تجربة جيامباتستا فيكو الذي أعطى للبلاغة بعدا آخر عن طريق استغلاله لها في تأويل التاريخ، وهو استعمال فريد من نوعه في تاريخ العلاقة بين البلاغة والتأويل، ففيكو يقسم التاريخ إلى ثلاثة عصور تولد لغتها الخاصة؛ تمثل العصر الأول في العصر الأسطوري وعرف هذا العصر بسيادة الاستعارة، وتمثل العصر الثاني في العصر البطولي وعرف سيادة الكناية، أما العصر الثالث فتمثل في العصر العامي وعرف سيادة الوصف؛ فالعصر الأسطوري كانت فيه سيادة الاستعارة لأن الإنسان في تلك الفترة لم يكن قادرا على التمييز بين الأشياء أو الفصل بينها، كما أنه لم تكن لديه القدرة على إنتاج الفكر المجرد لأن معرفته كانت تقف عند المحسوس. والعصر الكنائي عرف سيادة الدين، أما العصر الوصفي فعرف سيادة التفكير العلمي. ويشير الدكتور الزكري في هذا الصدد إلى أن البلاغة في هذه الفترة قد استعملت كنسق وكأساس للتأمل في حركة التاريخ من جهة وتأويل التاريخ وفهمه من جهة أخرى، فالبلاغة أصبحت تستخدم، أيضا، لممارسة نوع من التفلسف في تاريخ العالم.
انتقل الدكتور محسن الزكر إلى تصور نيتشه للبلاغة مؤكدا على أن اللغة بالنسبة إلى نيتشه هي بلاغة والمجاز عنده لا يخلو من إرادة للحقيقة، وهو يعتبره خاصية اللغة الأكثر حقيقية، والحقيقة بالنسبة إليه غير موجودة لأن ما يوجد هو التأويلات، فالحقيقة في نظر نيتشه هي استعارات تنوسي أنها كذلك. لقد أفرد نيتشه دورا مهما للبلاغة خصوصا فيما يتعلق بقدرة المجاز وقدرة الاستعارة على توليد الأفكار والمعارف، تلك الأفكار والمعارف التي تتيح لنا فسحة من التنوع لا يتيحها التأمل العقلي. وهذه المسألة في نظر الدكتور الزكري هي التي ستستمر فيما بعد في اتجاهات ما بعد الحداثة. والبلاغة بالنسبة إلى هايدغر ليست سوى المجال المعرفي الذي يكون فيه التأويل الذاتي للدازاين صريح الاستيفاء.. البلاغة ليست سوى تأويل للدازاين في ملموسيته ومن ثمة فإنها هيرمنيوطيقا للدازاين نفسه. يربط هايدغر في تعريفه للبلاغة بين البلاغة من جهة والتأويلية من جهة والدازاين من جهة ثالثة، وبهذا الربط تحولت البلاغة – كما يؤكد ذلك الدكتور الزكري – من فن للكلام إلى ”فن الكينونة مع“ أو ”الكينونة هناك“ أو ما أسمته الباحثة ريتا كوبلاند التي قدمت قراءة في أعمال هايدغر البلاغية بفن الاستماع؛ أي الاستماع إلى الآخر، والحوار مع الآخر، والخطاب مع الآخر. وقد شكلت فكرة الحوارية البلاغية عند هايدغر الأساس الذي يسميه جون غروندان ب ”الحوار الذي نحن عليه“. لقد ترسخت في هذه الفترة تقاليد تنظر إلى الممارسة اللغوية والبلاغية باعتبارها ممارسة للوجود نفسه؛ فإذا كانت البلاغة عند نيتشه هي اللغة نفسها واللغة هي بيت الوجود عند هايدغر فبضرب من القياس فإن البلاغة هي بيت الوجود؛ لكنها البلاغة من حيث كونها ممارسة للغة وليس للسفسطة والخداع.
تبين للأستاذ الدكتور عبد العلي معزوز من العرض التحليلي لمشكل البلاغة وتقاطعاتها مع الفلسفة والتاريخ الذي قدمه الأستاذ والدكتور محسن الزكري ضمن محاضرته أن الفلسفة تقتضي دراسة البلاغة وأن البلاغة كذلك عليها أن تقتبس من الفلسفة تصورات ومفاهيم لأن هنالك تقاطعات كثيرة بين الفلسفة والبلاغة. وقد أعطى الكلمة، بعدها، للطالب الباحث عادل بنملوك الذي قدم عرضا حول موضوع أطروحته التي وسمها ب “الفيلولوجيا مدخلا للتأويل الفلسفي عند نيتشه”، وقد قدم في هذا العرض أهم النقط التي توصل إليها في بحثه وأهم الفرضيات التي انطلق منها والتقسيمات التي اعتمد عليها. وقد وقف الباحث باستفاضة عند الاهتمام البالغ الذي بدأت تشغله الفترة الفيلولوجية من فلسفة نيتشه في الآونة الأخيرة وخصوصا في فرنسا حيث تبلور مشروع كبير لترجمة وتحقيق الأجزاء التي كتبت في الفترة الممتدة ما بين 1869 و1879، وما صدر من دراسات وما تحقق من تراكم حول هذه الموضوع والخطوات التي خطاها في بحثه وحفره فيه.
عقب رئيس اللقاء الأستاذ عبد العلي معزوز على عرض الطالب الباحث عادل بنملوك ثم فتح الباب للنقاش، حيث شهد اللقاء تدخل عدد من كبير من الطلبة الباحثين من مختلف الجامعات والتخصصات، الذين طرحوا على الدكتور محسن الزكري والطالب الباحث عادل بنملوك أسئلة عديدة ساهمت في إغناء النقاش. واختتم اللقاء بكلمة مدير المختبر د عبد اللطيف محفوظ الذي ثمن اللقاء، وقدم موضوع اللقاء القادم وضيوفه.