د محمد التهامي الحراق
حضرت، الثلاثاءَ الماضي(14_02_2023) بكلية العلوم الإنسانية والسياسية والقانونية التابعةللجامعة الدولية بالرباط، محاضرةً علمية ضمن إطار سلسلة (Idées et Débats ) التي تنظمها الكلية؛ وقد ألقى هذه المحاضرة الأستاذ أحمد التوفيق، المؤرخ والروائي ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، في موضوع غاية في الأهمية والراهنية العلميتين: “الدين والعلوم الإنسانية”. وكعادة الأستاذ أحمد التوفيق، فقد تناول الموضوع بصرامة منهجية وعمق تحليلي وقدرة استبارية، مستفيدا في ذلك من تكوينه التاريخي وخبرته الروحية وتجربته الميدانية. ولما كانت المحاضرة من الغنى والثراء والتدقيق بما لا يمكن اختزاله في نقط معدودة ومحدودة، فسأكتفي بإيراد إضاءات هي بمثابة تطريرات انطباعية على المحاضرة:
1_ اختيار الموضوع يحمل أكثر من دلالة، خصوصا إذا ربطنا ذلك بمحاضرات سالفة للأستاذ التوفيق؛ خصوصا منها تلك التي ألقاها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط في أواخر 2021م حول موضوع “الدراسات الإسلامية إلى أين؟”، الأمر الذي يفيد أننا إزاء مواصلة للتفكير في نفس الأفق، لكون الأستاذ التوفيق كان قد ألح في “مقترحاته الإصلاحية” لبرامج الدراسات الإسلامية على العناية بالعلوم الإنسانية، وأكد أكثر من مرة على أهمية التاريخ بشكل خاص؛ حتى أنه ذهب، ذات لقاء، إلى أن عدم اعتبار التاريخ علما من العلوم الشرعية قد ضيّع على الأمة الإسلامية أمورا نفيسة كثيرة.
2_ الملاحظة الثانية أن المحاضر، وفي إطار الحذر المنهاجي، قصر الحديث في مداخلته على الإسلام وعلاقته بالعلوم الإنسانية، حتى يتفادى كل تعميم غير علمي لتحليلاته وخلاصاته. كما أنه لم يكتف، في مقاربته لعلاقة الدين بالعلوم الإنسانية، بالرجوع إلى سجل التراث وماضي الثقافة الإسلامية، بل جعل مداخلته ذهابا وإيابا بين الحاضر والماضي، وكذا تحليلا مزدوجا لفلسفة هذه العلاقة في السياقين الغربي والإسلامي، وهذا ما جعل محاضرته غنية بالإحالات التاريخية، وكذا بالإحالات المرجعية الإسلامية والغربية على السواء، حيث استحضر مصادر ومراجع متنوعة بالعربية والفرنسية والإنجليزية.
3_ يخلص المتابع لمحاضرة الأستاذ التوفيق أنه يؤصل للعلاقة العلمية بين الدين والعلوم الإنسانية، ويرى أن هذه العلاقة لها ما يسندها في القرآن الكريم وفي الميراث العلمي والفكري الإسلامي. وعلى أساس ذلك، يقدم مقترحات للعناية من داخل الإسلام بالعلوم الإنسانية، ما دام أن هذا الدين جاء لاستخلاف الإنسان في الأرض وإسعاده في معيشه وحياته. وقد طرح الأستاذ التوفيق، في ضوء ذلك، آفاقا للاشتغال على المجتمعات الإسلامية من مداخل علم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة والاقتصاد والتاريخ…إلخ. على أن ما كان لافتا للنظر هو أن المحاضر ظل يبرز أهمية علوم الإنسان في حياة المتدين، ويؤصل لها في الاقتراب في حياته، دون أن يرى فيها ما قد يخدش من إيمان المؤمن أو من قداسة مرجعيته، بخلاف بعض المواقف الدوغمائية لبعض العقول المنغلقة التي لم تستوعب التحولات التاريخية العميقة التي أصابت المجتمعات، وكذا المعارف والمناهج الدراسية المواكبة لها في السياق الحديث.
4_ يؤكد ما سبق، أن الأستاذ المحاضر أشار إلى أهمية الاقتراب العلمي التاريخي من لحظات مفصلية في تاريخ الأمة الإسلامية مثل “الفتنة الكبرى”، والتي كان علماؤنا يتورعون عن الخوض فيها. ونرى مع، الأستاذ التوفيق، القيمة الكبرى للاقتراب التاريخي العلمي في هذا المضمار؛ ذلك أن السياق العالمي المنفتح، والتطورات المعرفية الكونية، واشتغال العقول العالمة من مختلف المرجعيات على هذه الفترة، وأهمية النظر في سنن التاريخ كما دعانا لذلك القرآن الكريم…كل ذلك وغيره يفرض على المسلمين الانشغال التاريخي العلمي بشروط تشكل الوعي الإسلامي بتعدد اتجاهاته، بل والتمييز في هذا الإشتغال بين ما هو متعالٍ مطلق وما هو تاريخي نسبي. كما أن الاقتراب التاريخي السليم أيضا من دراسة مراحل الفتوحات الإسلامية، سيصحح كثيرا من المغالطات بخصوصها؛ ومنها أن الإسلام دخل بالقوة إلى المغرب والأندلس مثلا، حيث أكد المحاضر أن دخول الإسلام إلى كثير من المناطق “المفتوحة” كان سلسا وبغير عنف، لما وجد أهلُها فيه من منافحة عن العدل ومواجهة للظلم، أي من مكارم وقيم.
5_ فضلا عن المتن الغني والعميق للمحاضرة، هناك استطرادات دقيقة في المداخلة تحتاج ربما إلى عناية خاصة؛ سأقف منها عند إشارتين: الأولى حين انتقد الأستاذ التوفيق رواية “استسلام” لميشيل ويلبيك، معتبرا أن المسلِمَ لا يمكن أن يكون “مستسلما” ومُكَلَّفا في نفس الوقت؛ إذ معلوم أن مقتضى الاستخلاف والتكليف هو الحرية (لمزيد توسع بهذا الخصوص يمكن الرجوع لكتاب عبد النور بيدار: “إسلام بدون خضوع..من أجل وجودية مسلمة”). الإشارة الثانية حين عرج المحاضر في استطراد دال على أن ثمة حكمة إلهية في عدم ترتيب القرآن الكريم لا موضوعاتيا ولا كرونولوجيا، وهو ما يدل، من جهة، على وعي عميق بالبنية التكوينية المتفرِّدَة للنص القرآني، والجامعة في منطقه المخصوص بين تفصيل التنزيل وإحكام الترتيب؛ مما يظل موضوع استكشاف متجدد في كل العصور، لا يغلق النصَّ بل يجعله متجددا في سياقات التلقي المختلفة، وابستميات القراء المتغايرة، أي بما يجعله مَجْلًى لجدلية التعالي والتاريخ كما فصلنا في ذلك ضمن كتابنا “الأنوار لا تتزاحم..من أجل أفق تحريري بالدين لا من الدين”.
6_ هناك أيضا أمر هام ظل يتخلل المحاضرة، وهو الحرص على استحضار التجربة الدينية المغربية من خلال استحضار “المرشد المعين” للإمام عبد الواحد بن عاشر، وكذا من خلال استحضار النّفَس الروحي الصوفي الذي جسده ورثة علم التزكية في الإسلام بإجمال، والمغاربة منهم بشكل خاص. كما أن المحاضرة كان يتخللها هذا الحرص على المقاربة العلمية التي لا تفرِّط في المنبع الإيماني؛ وهو أمر يخالف كثيرا من الرؤى التي تنطلق من العلوم الإنسانية اليوم مناقِضَةً باسم الموضوعية بين المقاربة العلمية والمقاربة الإيمانية. فقد تكلم المحاضر بوصفه مؤرخا مفكرا محللا مؤمنا ينظر في المسارات الممكنة اليوم، من داخل النسق الإسلامي، التي يمكن أن تسعف في تجديد وتثمير العلاقة بين الدين والعلوم الإنسانية في السياق العلمي والعالمي المعاصر.
7_ وإجمالا، وبعيدا عن كل دعوى تلخيص مداخلة أكاديمية غنية بالأفكار والرؤى والإحالات والمقترحات، فإننا نؤكد أن مثل هذه المحاضرات، تستحق أن تكون أوراق عمل لندوات موسعة، للتفصيل في محاورها، واستيعاب أبعادها المتعددة، ثم للإفادة منها في تفعيل مشروع إصلاحي تجديدي يصالح في السياق الأكاديمي بين المعارف الإسلامية والعلوم الإنسانية في السياق المعاصر، بعيدا عن آفة القطيعة من جهة وبعيدا عن آفة التلفيق من جهة ثانية؛ خصوصا وأن تلك المقترحات تفتح آفاقا وآمالا ومسارات واعدة للباحثين الشباب، وأنها تصدر عن رجل وازن جمع بين الخبرة الروحية التزكوية والمعرفة العلمية التاريخية والتجربة التدبيرية الرحبة للحقل الديني.