إنجاز : د . مولاي علي الخاميري
هذا المقال لا ينوي سبر أغوار الإشكالية المطروحة بكل تجلياتها ، فهذا غير ممكن قطعا ، ولا يدعي أنه يملك الحقيقة المطلقة في نقاش عويص ، استمر لأزمنة طويلة ، ولا زال ، وسيبقى بكل تشعباته وعمقه .
إنما يريد أن يضع بعض الملاحظات الخفيفة كما تبلورت من مختلف التأملات والمواقف المستمرة مع البلاغة والبلاغيين .
الأثر الأرسطي في البلاغة العربية واضح بمقادير ، وبأوصاف مختلفة ، ويظهر بجلاء لحظة انحراف البلاغة العربية عن سبب وجودها الأصيل ، وميلها عن نهجها الرصين الأوحد ، المتمثل في خدمة النص القرآني خصوصا ، وهو ما لا يتماشى مع ملاحظة ارتكانها في توسعها المتلاحق إلى النصوص الشعرية والنثرية ، وهذا من الملامح الظاهرة للتأثير على اعتبار أن أرسطو يُرجع إليه في الموضوع المذكور إلى كتابين ، أو رسالتين هما : فن الشعر ، وفن الخطابة ، وهو ما انغمست فيه البلاغة العربية حين فكت ، أو قللت التصاقها بالقرآن الكريم .
المعلم الثاني للأثر الأرسطي في البلاغة العربية يتمثل في الميل الواضح لكفة مدرسة البصرة على حساب مدرسة الكوفة ، فالمدرسة الأولى تستخدم الاستدلالات العقلية كثيرا ، وتكثر من التفريعات المسعفة لتمددات تلك النظرات العقلية المتحكمة ، أما المدرسة الكوفة فقد ظلت ملتصقة بالنص في حدوده الجمالية والبيانية وإن كانت تأثرت تأثرا خفيفا بالأثر الأرسطي حين ابتعدت هي الأخرى عن النص القرآني ، واكتفت بالشعر والنثر كما يظهر ذلك جليا في كتاب ابن الاثير : ( المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ) .
للزمن دوره في بيان مقدار الأثر الأرسطي فأن يتحكم المتقدم ، ونقصد به قواعد أرسطو في المتأخر وهو القرآن الكريم ، والسليقة البيانية والجمالية العربية عموما وبهذا الشمول المتناسل مع الأيام والأعوام إلى درجة اعتباره المكمن الوحيد والأوحد في الدرس البلاغي هو ما يثير الانتباه ، ويصدم المتتبع ، لأننا لسنا ضد التفاعل والمقابسات بين الثقافات إن كان بشكل يغني ويضيف ، ويحافظ على معالم الهوية كلها ، ولا يصبح مهيمنا ، وطامسا ، بل ومحرفا للمسار برمته .
ارتباط البلاغة بالنص القرآني يثير أحيانا بعض المخاوف ، ويولد بعض القلاقل الفكرية المرتبطة بثنائية المقدس والحرية ، ولعل هذا الوضع هو ما سهل عملية الابتعاد الملاحظة ، ووفر هوامش وطموحات جديدة للعقل البلاغي العربي ، وأطلق يديه بلا قيود في النصوص البشرية من شعر ونثر ، وأسهم في تمكن الأثر الأرسطي كثيرا ، ولكن ينبغي أن ننتبه أن ذلك قد كانت له تداعيات سلبية على مستوى دراسة النص القرآني ، وسبر أغواره ، والتعرف على أسسه الفكرية والجمالية بصورة أكبر وأفيد مما نتوفر عليه اليوم ، وربما كان سببا في عملية الانحراف الكبرى للفكر البلاغي العربي ، فنحن أمة ارتبطت بالنص القرآني في كل شيء ، بل ونشأت من رحمه ، ويُنظر إليها من خلال زوايا معطياته المختلفة ، وتُحاسَب كثيرا على هذا الانتماء ، ويصطف الأصدقاء كما يكثر الأعداء اتكاء على العلاقة القائمة بين الإنسان العربي المسلم وعلاقته بالنص القرآني .
أما في العصر الحديث فقد تقزم مدى الدرس البلاغي المعاصر كثيرا ، وأضحى مرتبطا بجزئية محددة بآفة الإقناع والتحجج ، وهو ارتباط يساعد على بقاء الأثر الأرسطي حيا من ناحية التفريع ، وهياكل التفكير المتحكمة ، كما أنه يحيلنا على عقدة المنشأ في معاني البلاغة حين نقارن منطلقاتنا ، ومنطلقات البحث البلاغي الغربي المعاصر الذي انبثق من مجريات وقائع لغة تقعيدية وقانونية ، تجمع ما بين وظيفة المحامي أوالقاضي في بيان سنن الإقناع والحجج العقلية ، الجانحة بقوة إلى منطق التغليب والفصل ، وهذا ما لا يتوافق مع مضامين البلاغة العربية فيما هو مسطر وحاصل ، وفيما يراد على صعيد التطوير والتجديد والتنمية ، وكنا نروم في عصر الانفتاح والتفاعل بين الأفكار والثقافات أن تتوسع مدارج الدرس البلاغي العربي ، وأن تحافظ على أنسقتها الأصلية الأصيلة ، وأن تؤثر في الآخرين المقابلين لنا ، وأن تعرفهم على فكرنا وذوقنا الجمالي ، وأحاسيسنا البيانية بشكل يفهم ويقرب ويبهر ، وألا يتحول دورنا إلى دور المُستقبِل والمستهلك الذي يُختصر دوره في تصريف البضاعات ، والسعي في إثبات المضامين المماثلة بسلاسة ، أو تمحل وتعسف ، ولاسيما في علم لنا فيه ناصية التأسيس والاجتهاد المستمر المرجو ، ويتضمن ما نعتبره يقينا وحقيقة من الهوية الثقافية الصحيحة والمفيدة .
وعلى ذكر الإقناع والحجاج أشير إلى ملاحظة أساسية تتمثل في كون علم المعاني في البلاغة العربية يركز على خاصية اعتبار المخاطب وكيفية طرق التبليغ انطلاقا من تصنيفات أضرب الخبر والإنشاء ، ومباحث القصر والفصل والوصل والإيجاز والإطناب والمساواة وغيرها ، ومعنى كل ذلك أن مباحث الإقناع والحجاج في البلاغة المعاصرة ترتكز على شيء مما ورد عندنا بشكل مفصل في علم المعاني المتصل بالأساليب الإبداعية المؤثرة في المتلقي على وجه الخصوص ، أما جانب البيان والبديع فقد أصابه شيء من الإهمال أو النقص مقارنة بما نجد عليه الأمر في تراثنا البلاغي الأصيل .
إزاء بعض الدعوات المعاصرة التي تتخذ من توسع معنى البلاغة سبيلا للاستدلال به على وجاهة الابتعاد عن النص القرآني ، وعن الارتكان والارتهان لمسائل الإقناع والتحجج كنت أتمنى أن يتوسع الدرس البلاغي المعاصر كثيرا ، وأن يكون هو ألأقوى والأصح والمكتنز بمضامينه المتنوعة ، الجامعة ما بين رونق التشكيلات القديمة ، وتطورات الأزمنة المعاصرة ، فهو يملك زمنا إبداعيا طويلا ، ويتكون من محتوى فكري متجدد دوما ، وأن يصبح ذلك الدرس متفرعا ويانعا في كل أغصانه ، وأن نحافظ على كل اتجاهاته ، وهذا ما سيسمح لنا بالإضافات البلاغية الضرورية المرتبطة بزمننا وتفاعلنا مع الأمم الأخرى على منحى التعدد الملاحظ والمتصاعد في الفعل البلاغي وعناصره ومحاصيله ومقاصده الفكرية والجمالية ، ووظائفه الفردية والمجتمعية .
وعسى أن تتأسس في لقاءاتنا ومقالاتنا البلاغية اليوم مثل هذه الرغبة ، وهذا الفهم ، وهذا القصد الجميل .