د . مولاي علي الخاميري ــــ
ما إن انتشر الإعلان عن اعتماد تراث الملحون المغربي من طرف منظمة اليونسكو يوم الأربعاء 7 دجنبر 2023م في قائمة التراث البشري اللا مادي حتى تعالت بعض الأصوات لإثارة المشكل القديم الجديد حول علاقة اللغة الفصحى باللغة العامية ، لغة الملحون ، وإعلان التخوف الأزلي من أن يكون إعلان اليونسكو بمثابة تشجيع للعامية على حساب لغتنا العربية الفصحى .
أريد في هذا المقال أن أبدي رأيي ، وأن أناقش هذه القضية ، وأبدد تلك المخاوف السلبية والمصطنعة وذلك من خلال زوايا متعددة :
1 – ينبغي إثبات أنني من أنصار اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم ، ومن عشاقها وأساتذتها والباحثين في تراثها الشعري والنثري ، ولا أرى أي تأثير مخيف في علاقة اللغة العربية باللغة العامية ، ولاسيما في تراث الملحون .
2 – إن الإشكالية المطروحة حول علاقة الفصحى بالعامية برزت في سياق ماضوي لم يكن صحيحا ، وإنما بني على توجسات ذاتية ، وعلى فرضيات متخيلة ، يكذبها التجاور الحميمي الملاحظ بين الملحون والفصحى على مدى سنوات طوال ، كما تتعارض تلك التوجسات مع حقيقة مجموعة من شعراء الملحون الذين كانوا فقهاء وعلماء ، ومن ذوي الثقافة الفصيحة الرصينة ، واستطاعوا الإبداع بالمنحيين معا .
3 – مضمون الإشكالية السابقة وبالسلبية المتحكمة فيها يَنِمُّ عن تقييم دوني اتجاه فن الملحون وأهله على ضوء نظرة اجتماعية أساسية تفرق ما بين الناس بحسب فئاتهم ومستواهم التعليمي ، فأغلبية شعراء الملحون كانوا أميين ومن طبقات المجتمع الشعبية بينما كان المبدعون باللغة الفصحى من الفئات العليا ، هكذا نُظٍر إلى الإشكالية ، وهي نظرة غير سوية ، وليست لها مصداقية على أرض الواقع ، وفي حقيقة الإبداع التي لا تميز بين الفئات على الأساس الاجتماعي ، وإنما تعمل على الدمج والانصهار بين الناحيتين ، ولا تُحَكِّم في النهاية إلا ضوابط الإبداع بغض النظر عن لغته ومستوياتها المجتمعية المختلفة .
4 – للأسف إشكالية الاصطدام بين اللغة الفصحى والعامية في الإبداع عموما ، وفي تراث الملحون على وجه الخصوص غَدَّتها مجموعة من الأفعال المتشنجة ، وذلك التقابل السلبي الذي نشأ فجأة بين اللغة العربية ، وبين التعبيرات العامية ، وفي هذا الإطار أشير إلى أن بعض المشتغلين بالملحون من الأشخاص والجمعيات ، وتحت تأثير الرؤية الأحادية الاصطدامية قد أقصت البعد الشعبي من أنشطتها ، واهتمت بالملحون في إطار دوائر ضيقة من الناس ، تأتي لتستمع وتتمايل مع نغمات الموسيقى والإنشاد دون أن تكون لها دراية واجبة ، تتعلق بفن الملحون ، ودون أن تستفيد ، وتربط ما بين مستويات التاريخ والأعلام والفكر والفن كما يقدمها تراث الملحون ، وهذا الوضع ساهم في تضخم ظاهرة الاصطدام ، ولم يستطع أن يساعد في حلحلة الوضع ، والعمل على حدوث انفراج قائم ، ومخرج دائم يقوم على أسس علمية متوفرة بغزارة ، تعزز العلاقات الكثيرة التي تجمع ما بين الفصيح والعامي في شعر الملحون ، وهو ما كان مأمولا في أنشطة الجمعيات والمهتمين بالتراث المذكور .
5 – المروجون لمسألة الاصطدام بين الفصحى والعامية يسقطون في خطأ كبير حين يستنجدون بما وقع للغة اللاتينية مع اللغات الأروبية التي تفرعت عنها ، وهو قياس باطل كما يقول الأصوليون ، لأن الانفصال بين اللغة اللاتينية واللغات الأروبية قد وقع على كافة المستويات ، وتحكمت فيه عوامل التحرر من قيود اللغة الأم بدوافع فكرية ودينية ولغوية ، وبغايات الاستقلال وإنشاء لغات جديدة ، ومثل هذا لم يحدث في العلاقة التي تجمع عاميتنا باللغة الفصحى ، فلا زالت الروابط قائمة كما كانت ، ولا زالت المفاهيم والمدلولات اللغوية متبادلة ويالمعاني والجذور التي تتحكم فيها ، ونستطيع أن نتبين ذلك عبر المفاهيم الفكرية والفنية لكل تعبير ، ولكل كلمة في شعر الملحون ، فليس هناك انفصال أو اصطدام وإنما توسعة وتداخل وتكامل وتأكيد على الأبعاد التي توحد وتجمع بينهما ، وسأحاول أن أرشد القارئ إلى هذا عبر مثل موضح في نهاية المقال .
6 – مسألة ضعف أو قوة اللغة الفصحى ليست نتيجة حتمية للمزاحمة والاصطدام المزعوم ، إنما هي من آثار الأطوار التي تمر على اللغة داخل المجتمع ، وكذلك العوامل المتحكمة من جهة الاهتمام والرغبة ومستوى التعليم وغيرها ، وقد مرت اللغة العربية الفصحى طيلة مقدار تجاورها مع لغة الملحون العامية ، وهي مسافة تقدر بأزيد من سبعة قرون مضت من مراحل مختلفة على مستوى الازدهار والانحطاط ، ولم يكن للعامية ، ولا شعر الملحون دخلٌ ، أو تأثير في ذلك بقدر ما كان للعوامل السالفة وشبيهاتها المتعددة .
7 – الإنسان المغربي لم يكن يوما على مستوى واحد من ناحية إتقان اللغة الفصحى ، فقد كان التعليم فئويا ، والمتعلمون قلائل ، فكيف نَحرِم فئة عريضة لا تحسن إلا اللغة العامية ، ولها مواهب إبداعية كبرى ، وإبداعها في النهاية لن يخلق اصطداما أو تجافيا مع اللغة الفصحى ؟ بالإضافة إلى أن الإبداع باللغة العامية قد حافظ على تناسق المجتمع المغربي ، ووفر له آلية تزكي التنوع الإبداعي الثنائي بين اللغة الفصحى واللغة العامية ، وساهم في بلورة تلك التباينات المجالية والفكرية واللغوية ، فلو اكتفينا بالإبداع باللغة الفصحى لوقع التشابه ، وضيعنا فرصا كثيرة للإبداع المنجز ، وضيقنا واسعا ، أنعم الله به علينا ، ولضاع منا تراث عظيم ، كان له الأثر الجميل في رص الصفوف ، وإغناء المشهد الإبداعي ، وتكامل وظائف اللسان المغربي الجامع ما بين الفصحى والعامية .
8 – مضامين شعر الملحون حَوَت الكثير من محتويات الثقافة العربية الفصحى إن لم نقل بأنها هي هي بتفاصيلها المتعددة والمتنوعة ، فنحن نجد رواج مشاهد شعر الغزل بأعلامه وحيثياته ، وحكاياته المختلفة في قصائد العشاقي الملحونية ، فشخصيات مثل عنترة وعبلة وقيس وليلى تتكرر باستمرار في متون القصائد ، وكذلك الأمر بالنسبة للمعاني الدينية الكبرى وبلمسات جميلة جدا في مواضيع السيرة النبوية من حب وتعلق بشخصية نبينا المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وإشاعة فكر الصلاح بين الناس ، والدعوة لمكارم الأخلاق ، وتقريب معاني القرآن الكريم ، ومضامين الحديث النبوي الشريف للفئات البسيطة في ثقافتها على يد مجموعة من العلماء الأجلاء باللغة العامية في دروسهم وأحاديثهم الدينية داخل المساجد وفي خارجها ، ولا بد من التأشير على النتيجة النهائية ، المتمثلة في وظيفة بناء النفوس بناء دينيا قويا ، والعمل على بث الوعي في أوصالها مسايرة بما فعله المثقفون باللغة الفصحى ، وأنا سأنقل للقارئ بعض مفردات نص جميل للشيخ الجيلالي امثيرد وهو يصف الرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام ، يعجبني كثيرا ، وأراه دالا في موضوعه ، ويثبت تلك العلاقة القوية والمتكاملة بين الثقافتين ، يقول في قصيدة : ( حب احبيب الرحمان ) عن جحود الكفار للرسول المصطفى عليه الصلاةوالسلام :
عرفوه وكذبوه وجحدوه هل الكذوب
اش يجحدوا في طلعة البدر الساني
لولاه ما ايكون شي من الاكواني
وهو المعنى عينه الوارد في همزية الإمام البوصيري رحمه الله حين قال :
عَرَفُوهُ وَأَنْكَرُوهُ وَظُلْماً
كَتَمَتْهُ الشَّهَادَةَ الشُّهَدَاءُ .
9 – سأوسع الاستشهاد بجانب آخر من مضامين قصيدة امثيرد المذكورة ، وسأزود القارئ بخصلة جديدة تجمع ما بين الفصيح والعامي ، وتلك الخصلة هي كثرة الألفاظ المستقلة والمتناغمة في بناء المعنى المراد ، وكلها تستعمل داخل قصيدة امثيرد بالمفهوم الفصيح ، ويمكن أن تٌقرأ قراءة فصيحة مع إضافة علامات الإعراب ، يقول :
نور الحق الديان – روح القدس والجنان – رحمة واعفو وأمان – شرع الدين المحسون .
تعظيم القدر والشان – سيد اعجام وعربان – سيد اجميع الثقلان – ما حملت به بطون .
يوم الفزع والفتان – والصراط وميزان – نسعى الله الغفران – عنا الصعاب اتهون .
في اصلاتو يا إنسان – كثر اجهر وكتمان – ما في اصلاتو نكران – والناكرها ملعون .
هي شرب اللهفان – هي كنز اللحقان – هي الفرح وسلوان – هي الراحة واسكون .
إنه مثال حي وشاهد على روح التناغم ، والعلاقة المتكاملة ، الجامعة بين اللغة الفصحى واللغة العامية في شعر الملحون ، يمكن أن نتخذه نبراسا للبحث العلمي الموسع ، والمقارنة الإبداعية .
10 – نخلص بعد هذا التحقيق والتتبع إلى مجموعة من النتائج الداحضة لمعطى الاصطدام بمفهومه السلبي وكما تخيلته بعض العقول ، وأصبح وصفا جاهزا ومستفحلا أمام التقارب الحاصل والقائم والملموس بين مضامين الإبداع العالِم ونظيره الإبداع العامي :
ا – الاصطدام كما يثار بيننا يتضمن أخطاء واضحة في الفهم والتصور ، ويكرس نوعا من التعالي الفكري الممارس من طرف البعض ،
ولا يصمد أمام معايير التفكير والبحث العلمي الرصين .
ب – يمثل بعدا نخبويا لدى فئة من المثقفين المغاربة الذين يبالغون في التهويل ، ولا يعتبرون التراث المكتوب بالعامية المغربية من اختصاصهم ، ولا من صلب ثقافتهم .
ج – أكثرية الوجوه الثقافية المناهضة للغة العامية إنما تقوم بذلك لستر جهلها بمضامين التراث المغربي ، وتعويض خسارتها بعدم القدرة على التحاور ، بل لا تستطيع حتى قراءة سطور ذلك التراث ، وفهم مراده ، وتفر منه بسبب كل ذلك كما يفر المسجون من قيده .
د – لا أجد لهذه المقاربة مخرجا علميا مقبولا ، فعلى أي أسس معرفية يتم الجمع بين لغة فصيحة ، لها تاريخ طويل ، ولها تراث عظبم ومتنوع وحافل بالمنجزات الفكرية والإبداعية ، وبين لغة عامية تعتبر من فروع اللغة الأم في جميع تجلياتها الثقافية والفنية ، ولم يقع أي شنآن في مشوارهما يمكن الاستشهاد به لإبداء التخوف ، ومواقف التعارض المتخيلة .
ذ – ينبغي إشاعة أجواء الارتياح ، وإبراز التفاعل والتكامل الإبداعي ما بين الفصيح والعامي ما دام أن مدلولات اللغة الفصيحة وكما رأينا ذلك في المثال القصير السابق تبقى هي المهيمِنة على معاني الألفاظ والأفكار والصور الفنية المستعملة في التراث العامي المغربي .
. أستاذ جامعي – مراكش