لمفرج : مشاركتي مع الفنان العالمي Goran Bregovic ـ (الجزء الثاني)
• مهرجان Stimmen بمدينة Lörrach بسويسرا
• مهرجان Caracalla بمدينة Roma بإيطاليا
فجأة اتصلت السيدة أنطونيلا لتذكرنا بالموعد أو لتوقظنا من النوم بصريح العبارة!! فهي تعلم العلاقة الحميمية للمغاربة مع الوقت!! وحين أخبرتها أننا بباب القنصلية أطلقت ضحكة مدوية وقالت:
– ماذا تفعلون هناك؟!! ما زالت أمامكم ساعتان عن الموعد!!!
فاجتبها:
– فعلا سيدتي! ولكن أمامنا الآن أزيد من 200 شخص، والشرطة هنا تمنع كل من يقترب من الباب.. في رأيك.. كيف لنا أن نقابل القنصل أمام هذه الظروف!؟
أدركت السيدة من إجابتي جدية الموقف، وأن عليها أن تتصرف بسرعة فقالت:
– ابقوا قريبين من الباب قدر المستطاع.. سأحاول الاتصال حالا بالقنصل.!!
اقتربنا من باب القنصلية الحديدي، وسمعنا أحدهم ينادي (أين أصحاب المهرجان؟؟!!)
فسمح لنا بدخول، وسرنا حتى وصلنا بابا خشبيا كبيرا ما إن فتح حتى سمعنا صوت القنصل يدوي صداه بين جدران البناية الفخمة، وهو نازل يطوي درجات السلم الأنيق الذي يتوسط البناية. ثم أخذ من هشام الوثائق والجوازات وراح يتفقدها بخفة ويقول:
– هذا مستحيل!!! هذا مستحيل!!! لا يمكن أن تحصلوا على الفيزا بهذه السرعة.. يلزمكم أسبوع على الأقل ..!!
ثم رد الجوازات إلى هشام وهم بالانصراف لولا أن استوقفته وطلبت منه الرد على مكالمة السيدة الإيطالية أنطونيلا، وطلبت منه أن يشرح للسيدة الوضعية، فهي المسؤولة عنا وعن المهرجان! تمنع القنصل وتردد في أخذ الهاتف.. وكانت السيدة تلح علي لأناول الهاتف للقنصل، فوجدت نفسي مضطرا لأن أجيبها قائلا:
– ماذا علي أن أفعل ..!! إذا كان السيد القنصل لا يريد أن يأخذ مني الهاتف ولا يريد أن يكلمك ..؟؟!!
أحس القنصل بالإحراج فخطف الهاتف مني.. وعلت حدة صوته أكثر من قبل .. ولا زال يصرخ: مستحيل.. مستحيل.. حتى تغيرت نبرة صوته فجأة، وبدأت تخبو رويدا رويدا.. وإذا به يطأطئ رأسه مذعنا لما تمليه عليه أنطونيلا العجيبة!! فصار ذلك الأسد الزائر بين يديها فأرا لا يسمع له صوت آخر سوى: أمرك سيدتي.. عذرا سيدتي !!
.. أخذ الجوازات مرة أخرى من هشام، ورد إلى هاتفي، ثم صعد مسرعا دون أن ينطق بكلمة.. ومن أعلى السلالم أطل علينا وطلب منا الانتظار.. وعاودت السيدة أنطونيلا الاتصال بي مجددا وبلطف شديد قالت:
– سيقوم القنصل الآن بتحضير التأشيرات لكم وللموسيقيين الثلاثة الآخرين، وعليكم العودة غدا صباحا لاستلام جوازاتكم، ثم الذهاب مباشرة إلى المطار.. طائرتكم سوف تقلع من مطار محمد الخامس في اتجاه مدينة Basel بسويسرا على الساعة الثانية والنصف، وعليكم أن تكونوا جميعا قبل موعد الإقلاع بساعتين على الأقل!!
انتهت المكالمة.. وكلي اندهاش من قوة شخصية هذه السيدة النفاذة ولطفها ولباقتها الأخاذة.. وبعد بدقائق نزل القنصل وبيده ورقة عليها أختام كثيرة سلمها لهشام ثم التفت نحونا وقال:
– أظن أنه لأول مرة في تاريخ إيطاليا ستسلم الفيزا لكم في أربع وعشرين ساعة!! وهذا لأن حالتكم مستعجلة جد!! وعليه، يجب أن تكونوا هنا الساعة الواحدة زوالا لتتسلموا جوازاتكم. وهذا فاكس قد أرسلته لكم السيدة أنطونيلا ليسهل عليكم المرور إلى سويسرا.!
.. انتابني لحظتها حدس بأن هناك أمرا غير منطقي.. فطلبت من هشام أن يناولني تذكرة سفر أحدنا. وما إن وقعت عيني على ساعة الإقلاع حتى صرخت:
– لن نستطيع اللحاق بالطائرة.. الإقلاع على الثانية والنصف زوالا…!!
نظر إلي القنصل متعجبا وأخذ التذكرة من يدي ليتأكد بنفسه من ذلك ثم قال:
– اعذروني!! هذا كل ما لدي.. لا يمكن أن تحصلوا على الجوازات قبل الواحدة !!.. ثم تركنا وانصرف.!
أخرجت هاتفي من جديد وطلبت السيدة أنطونيلا ثم شرحت لها المشكل فطلبت مني أن أمرر الهاتف للقنصل مرة أخرى.. فناديته وأخبرته بأن أنطونيلا على الخط!! فتردد في النزول بعد أن كان قد بلغ الطابق الثاني، إلا أنه عاود النزول ليصول ويجول يرتعد ويعربد.. ولكنه في هذه المرة لم ييأس أو يسلم.. بل وناولني الهاتف بحزم وقال:
– أنت المسمى رشدي؟!! قل لأصحابك الموعد غدا الواحدة زوالا.!! وهذه أنطونيلا تريد أن تحدثك.. ثم تركنا وفر نحو السلالم..
.. كنا قد فقدنا كل أمل في السفر بعدما شاهدناه من مشاحنة وتعنت وردود فعل قوية ومتصلبة من لدن السيد القنصل. وحين استلمت المكالمة حدثتني أنطونيلا بهدوء وبرود غريبين، وأحسست من نبرات صوتها شيئا من الإعياء أو الاستياء وهي تخاطبني قائلة:
– شكرا لك رشدي.. لقد أبليت حسنا…! ولكن، اسمعني الآن جيدا.. لا يمكن تغيير موعد أخذ التأشيرات غدا ولكن، يمكن أن نغير موعد وتذاكر السفر.. لذا أريدك أن تتوجه حالا إلى أقرب وكالة للخطوط الملكية المغربية لبحث إمكانية تأخير أو تأجيل السفر إلى اليوم الموالي..
.. انطلقنا كالسهم نحو قلب الدار البيضاء قاصدين الوكالة المنشودة، وبعد أخذ ورد، تمكنت الموظفة من أن تحجز لنا ستة مقاعد بطائرة تابعة للخطوط الإسبانية إيبيريا، ولكن مع تغيير الرحلة من الدار البيضاء نحو مدريد بإسبانيا، والمبيت بمدريد ثم استئناف السفر من إسبانيا نحو زوريخ بسويسرا.. هذا التغيير كلفنا أحد عشرة ألف درهم لم تكن بحوزتنا ساعتها ولكن الموظفة تفهمت وضعنا وأمهلتنا إلى يوم غد لإتمام الحجز..
.. عدنا إلى فندقنا المتواضع، بينما اتجه سعيد بسيارته عائدا إلى تطوان ليجلب معه الموسيقيين الثلاثة: أشرف (الكمان) ومصطفى (دربوكة ) والمرحوم محمد غاني (الطار) ثم بعد ذلك سيمر إلى منازلنا ليأتينا بالآلات والحقائب والمال .. وفي صباح اليوم التالي اجتمعنا ببهو الفندق لنتوجه جميعا إلى القنصلية.. وعند وصولنا وجدنا فوضى عارمة.. لقد كان المكان يعج بالبشر!! أزيد من 500 شخص…!! منهم من افترش الأرض، ومنهم من التصق أو تسلق الجدران والشبابيك.. بينما رجال الشرطة المحيطون بالمكان يبذلون الجهد لثنيهم عن ذلك وأحيانا بالقوة…!
.. حاولت مرارا الاتصال بأنطونيلا، لكن خطها كان مشغولا على غير عادته.. وحاولنا الاقتراب من الباب فمنعنا رجال الأمن، لولا أن تفهم أمرنا أحدهم حين شرحنا له وضعيتنا فسمح لواحد منا فقط بتجاوز الباب الحديدي.. ليدخل خالي هشام.. وحين وصل الباب الخشبي لم يسمح له بالولوج، وأغلق الباب في وجهه، وهو ما أثار حفيظته فصار يصرخ ويضرب الباب بقوة مما استدعى تدخل رجال الأمن الذين قاموا بإبعاده قسرا، ودفعوه خارج الأسوار…!!
… التم الجميع حول هشام ليعرفوا ما حدث، بينما رحت أتحين الفرصة للاقتراب من ضابط شرطة.. فأومأت إليه بيدي ، وحين اقترب، همست له بأننا فرقة موسيقية، ولنا عرض بسفارة المغرب بروما بمناسبة حفل زفاف الملك . ولنا موعد مع القنصل اليوم زوالا.. وما إن سمع كلمة ( الملك ) حتى فتح نفقا في مئات المتجمهرين بباب القنصلية !! فجرى وتبعته، ولحق بنا زملائي حتى إذا وصلنا الباب الخشبي فتح على مصراعيه ليخرج إلينا القنصل مذعورا!! فصاح في الضابط قائلا:
– ليس لدي أي فكرة عن حفل زفاف للملك بروما !! وهؤلاء الموسيقيون مشاركون بالمهرجان…!!
ثم نظر إلينا وقال غاضبا:
– لقد أخبرتكم البارحة أنكم لن تتسلموا جوازاتكم قبل الواحدة زولا!!! هيا اذهبوا وعودوا في موعدكم.
رجعنا أدراجنا خائبين، بينما استوقفني ضابط الشرطة وعلامات الغضب باديه عليه فخاطبنا قائلا:
– أنتم إذن ذاهبون إلى مهرجان!! وتدعون أنكم ستحيون حفل زفاف الملك بروما ؟؟!!
.. تسمرت رجلاي خوفا، فقد انكشفت حيلتي، ولكني اضطررت إلى اختلاق هذه الكذبة (سامحني الله) لنتمكن من الدخول!! فبعد ما حصل مع هشام، والطريقة التي أخرجوه بها، ما كان ليسمح لنا بولوج القنصلية مرة أخرى!!! والآن أنا في ورطة جديدة وعلى أن اخلص نفسي منها!! .. فالتفت إلى ضابط الشرطة مجيبا إياه بصوت الواثق من نفسه:
– معذرة سيدي .. هذا ما أوصانا به مدير ديوان والي صاحب الجلالة بتطوان أن نقوله .. يجب أن تبقى هذه الأمور سرية.. ونحن نتبع التعليمات .!!
نظر إلي الضابط مستغربا.. واختفت تقاسيم وجهه العبوس، ليرسم ابتسامة عريضة وقال:
– حسنا!!.. إذا كان الأمر هكذا.. الله يعاونكم… ثم حيانا وانصرف!!!
وهنا تذكرت مقولة لأحد أقاربي إذ كان يقول لنا على سبيل الدعابة:
– الكذبة إن أنقذتني حلال.. وإن لم تنقذني فهي حرام !!
(يتبع …)