
ـ في تحياتي للراحلين حكيم عنكر وابراهيم الحجري ـ
هل هي مجرد صدفة، أن نحضر بكل ما نملك من امتنان وحب، لحاضرة أولاد فرج؟
هل هي مجرد صدفة، أن تخونني العبارة، ولا تَسْعَفُني الذاكرة، في حضرة روحيْ رفيقين رائعين، نبيلين، حكيم عنكر وابراهيم الحجري؟
هل أصرّح لأحبابِكما بأنني، وكأنني حائر ومضطرب في التعبير عن حضورِكما المتميز، أو عن غيابِكما المفاجئ، الذي لا معنى له، إن لم يكن معناه، ذلك السؤال الفصيح الواضح الذي عبرتما عنه بما تركتما من أعمال إبداعية وفكرية وإعلامية وميدانية؟
تذكرنا بكما وبصرختِكما في وجه الزمن المغربي، في وجه المدنية المشبوه، ومدن البقالين ودكاكين إصلاح العجلات وتشردم المعطلين.
في وجه الصدور الضيقة والعيون الشرهة.
في وجه من لا وجه له.
في وجه الكآبة والكَتَبة المكتئبين، المتخمين بالأطماع والمطامح الرخيصة.
أيرضيك هذا يا باشلار؟ يتساءل حكيم عنكر، مُشيرا بأُصبُعه إلى أوكار الصمت والبورصات، إلى نشرات الأخبار الخشبية، إلى عالم يحكمه السماسرة والبارونات، يضحك فيه الذهب المركون في الخزائن ويصهل فيه الجوعى.
هل قرأت يا بشلار ديواني حكيم عنكر : رملَ الغريب ومدارج الذاكرة؟ هل عثرت فيهما على قطيعتك المعرفية؟
وهل اطلعت على موسوعة إبراهيم الحجري، ثلاثةَ عشر كتابا في الإبداع الروائي والنقدي؟ هل تعرف يا بشلار معنى ” صابون تازة ” وحقيقة ” الأبواب الموصدة ” هل تعرف قومَ بني هلال وطيورهم الحرة؟
أما أنا فأتستّر على شعوري بالامتنان الكبير، لأنني بالفعل رأيت الفراشات المحلّقة بين أولاد فرج ومدينة الجديدة، رأيتها تنثر الجمال والمحبة عبر أجنحة كلية الآداب وشوارع المدينة وأزقتها، وعبر أحلامها واحتجاج شبابها، رأيت حكيم والحجري في التجمعات الثقافية والتنويرية، بأيديهما شموعٌ بيضاء، رأيتهما يزرعان بذور الشّعر والإبداع عبر ربوع الوطن، يصمّمان صروح البحث العلمي والعمل الصحافي الجاد. رأيتهما صامديْن في وجه الإقصاء والتهميش وعقلية المغرب غير النافع.
رأيت فراشات دكالة تبشر بربيع ثقافي، آتٍ، لا محالة، بأدب متميّز رصين، يرسم معالم الطريق.
اليوم، وبعد عِشرة طويلة معكما، أزور حاضِرَتَكما، أولاد فرج، للترحم عليكُما، لا لأرثيكُما، بل لأهْمِس لكما بأننا لا نموت دفعة واحدة، بل نموت أقساطا متفرقة، كلما رحل عنا صديق أو رفيق أو قريب، نفقد جزءا منّا، من وجداننا وحياتنا، وكلما قُتل حُلم من أحلامنا، مات منا جزءٌ آخر، حتى إذا ما جاء الموت الحتمي لن يجد إلا بقايا البقايا، يحملها ويرحل.
فما بالكما إن كانت أجزاؤنا تلك، مبدعين وكتابا كبارا، هم بالأحرى، بمثابة آبائِنا الافتراضيين المختارين، الذين تمنينا وودِدْنا أن نمسك بأرواحهم حتى يظلوا معنا. لأننا نعلم علم اليقين، أننا بعدهم لن يكون لنا أفقٌ ننتظره، ولا ظَهر يحمينا ولا سندٌ يشذّ أزرنا ويمنحنا معنىً بين الخلائق.
طاب سباتُكما صديقيَ العزيزين.