من عبد الواحد الطالبي – وارسو عاصمة بولونيا ( كش بريس)
لم تكسد سوق القراءة والمطالعة في وارسو بل على ما يبدو في بولندا، التي ما يزال الناس فيها محافظين على عادة تكاد لدينا تستلبها التكنولوجيا ويبددها الهاتف النقال وتحرق وريقها صفحات الضوء على شاشات الكومبيوتر واللوحات الإلكترونية، وما يزال الورق يقاوم بين أيدي القراء وعلى رفوف المكتبات.
فلا يعدم الزائر والسائح في حديقة أو ساحة فسيحة أو على ناصية جنب الوادي، منظر شاب أو كهل الرجل أو المرأة، يسافر بين دفتيْ كتاب إلى عوالم الفكر والثقافة والفن والأدب، أو يسْبِر غوْر علم من علوم العصر لا يشغله عن مواكب الحروف أفواجُ العابرين ولا ما حوْلَه مما في محيطه.
وتقام في مركز المدينة سوق أسبوعية للكتاب تُنصَب فيها الخيام يرتادها القاصدون والعابرون يبتاعون ما يحتاجونه للمطالعة وللدراسة ويقايضون كتابا بكتاب، ويشهدون في السوق مطارحات الأفكار وتوقيع المؤلفات ونقاش القضايا العلمية والثقافية داخل فضاءات مخصصة لهذه الغاية مؤثثة بما يَلزَم الحضورَ للمشاركة والتفاعل.
ويعرض الكُتْبيون إلى جانب بضاعتهم من اللغتين المحلية والإنجليزية، كل ما يلزم القراء من جيوب أنيقة عبارة عن مخابي للكتاب مصنوعة من قماش مُبْهِر يُطْوى مثل الغلاف يَحسُن حمْلُه في كفِّ امرأة كمحفظة اليد، وأيضا صورِ كُتّاب ومؤرخين ومؤلفين بولنديين وأوروبيين، إضافة إلى أكسسوارات تحفز الأطفال على القراءة والإقبال على الكتاب.
ويقدم السوق نفسه بما يحويه من أنشطة ومعروضات كمعرض حسن التنظيم، يوفر للعارضين والزوار ما يحتاجونه للترويح والانتعاش بتخصيص مقاصف تعرض المثلجات والمبردات والمشروبات وبعض الأطعمة والتصبيرات.
وكثيرة في وارسو رفوف الكتب في وجه القراء سواء في المقاهي أو المكتبات والخزانات والمؤسسات التعليمية أو المتاحف. وكل من قصد كتابا وجده ووجد الظروف المناسبة التي تساعده في أجواء الهدوء والسكينة للمطالعة فيه وقراءته. والمكتبات مثلها مثل الفضاءات العامة مقصد لأعداد وفيرة من الذين يراود العرب في بلادهم الشك أن الناس يقرأون والكتاب حي وأن الورق المُسَوَّدَ باقٍ.
فلا يفتقر سكان وارسو للكتاب الذي يجدون فيه إمتاعا ومؤانسة بإطالة النظر، يبددون كل وحشة ويستغنون عن جليس السوء معتصمين بحبله إلى مدارج السمو والعلا بين الأنام والخلائق. وفي حضرة الكتاب حيثما تصفحت يدٌ ما بين دفتيه وخَفَرَتِ الْعُيون مداد صحائفه ومالت الفهوم إلى معانيه مَيْلَ الأم الحانية على طفلها الغرير، عمت السكينة وساد الصمت وأرخى الهدوء بسدول التأمل والفِكَر.
وتحتفي بولندا بالكتاب في إحدى أهم مكتبات جامعة وارسو بتزيين الجدران الخارجي للمكتبة المفضي للحي السياحي بلوحات كتبت بالحرف العربي وبحروف لغات أخرى، تُمَجِّدُ الكتاب وتبرز قيمته وما يبيحه لجليسه من رفعة وما يمنحه من خير يرتقي به القارئ إلى الصفوة من الناس علما وخُلُقا.
ولعل هذه العاصمة ما زالت على عهد العواصم الكبرى القديمة التي كانت موئلا لطلاب العلم ومقصدا للدارسين والباحثين، تتمركز فيها كبرى جامعات البلد ومختبرات البحث الأكاديمي في شتى ميادين المعرفة وحقول العلم، وهي لذلك وجهة استقطاب جامعي من كثير من دول العالم رغم القيود الصارمة التي تفرضها حكومة بولندا للإقامة والهجرة من بلدان الجنوب سواء على الطلبة أو على غيرهم.