ارفعوا الستار عن مسؤوليات السلطات السياسية والأمنية والتشريعية عن انتهاك سلامة وأمن القاصرات والقاصرين….
أجواء الاضطراب التي خيمت على محكمة الاستئناف بالرباط وبالخصوص منذ عهد الرئيس الأول السابق، أدت الى عدة اختلالات لدرجة اهتزت معها الثقة في المحكمة كما يعرف الجميع، وفي العديد من الاطر القضائية بسبب سوء تدبير المسؤول السابق وضعف قدراته على بعث الحماس في قضاة المحكمة ووقف ” ضغط الارقام و الاعداد عنهم وعن جلساتهم ” ليتفرغوا للاهتمام بالنوع و الجودة و بالتعليل المتين والكافي لقراراتهم ، وكان ذلك من بين الاسباب التي جعلت الخوف أو التخويف يهيمن على وجدان وقناعات البعض منهم ضدا على استقلال واطمئنان القضاة المفروض دستوريا على الجميع بما فيهم القيادات القضائية من مختلف المستويات، وكان من الأسباب كذلك التي تفرض هنا وهناك على العديد من المتقاضين للتظلم و رفع غضبهم طلبا للحماية و ضمان حقوفهم وهذا ما لا يعجب أحيانا البعض من المسؤولين.
ومن هنا، تكون مطالب المواطنين بالانصاف و بالحق في الدفاع و بالمحاكمة العادلة، مطالب من صميم قِيم دولة القانون لا عدالة بدونها، ولا ديمقراطية مع غيابها ولا كرامة أو حقوق الإنسان بانتهاكها.
كما أن الحاح المواطنين بمختلف مشاربهم على استقلال القضاء واستقلال القضاة مؤسساتيا وتشريعيا وحقوقيا، والدعوة لرفض الضغط عليهم أو التدخل في قراراتهم، كلها مطالب مشروعة لانها تحديات طالما وقف المحامون والمحاميات قبل غيرهم، رجالا ونساء للمناداة بها وللدفاع عنها وللاحتجاج على انتهاكها، فكانوا من صناع التحولات التاريخية الوطنية الاساسية و التوجهات السياسية والدستورية التى اسست لمخرجات هيئة الانصاف والمصالحة، وللافكار الاستراتيجية الحاسمة في دستور المغرب لسنة 2011، وللعناصر المحورية الكبرى للهيئة العليا لاصلاح العدالة والقضاء،
ومن المثير للتفكير والتساؤل هو كيف تصبح ضجة ملف الاعتداء الهمجي على طفلة صغيرة السن بمدينة تفيلت والذي خلق ردة فعل عارمة وطنيا وعالميا ، ضجة تاتي لتخلق بدورها ضجة موازية أكثر خطرا وتعقيدا وتأثيرا وتداعيات ، تتمثل في أن الجميع محامين وقضاة مستشارين ومؤسسات وجمعيات حقوقية واعلاميين و شرائح مجتمعية واسعة، الكل يشعر بخوف محزن دب في قاعات جلسات محكمة الاستيناف بالرباط ومكاتبها وأروقتها ، ويشعرون بالاضطراب الذي خلق و سيستمر راسخا في الوجدان القضائي وفي العقيدة القضائية من أن التعامل مع القضايا عامة، ومع القضية المعنية بالخصوص لم يعد محصورا بين الملف ووقائعه. ووثائقه وأطرافه ، بل أصبح الملف، مثار حديث السياسي والاعلامي، يضغط فيه الجمهور والشارع مناديا بلغة السخط أو العاطفة بأمور ليست من مهامه ولا من اختصاصاته.
إن صورة القضاء في المغرب وواقع العدالة أمامنا كمهنيين وقانونيين توحي بأن المغرب في مرحلى السكتة القاتلة، لأن الجميع أخرج السيوف من أغمادها وراح البعض يلعب دور النيابة العامة ليطالب برفع العقاب و برفض ظروف التخفيف وبإدانة هذا و ذاك……الخ
إن ردود الفعل العارمة تتجه نحو قتل التلقائية في الوجدان والاريحية في الضمير و القناعة القضائية ، إنها تتجه نحو تجميد الانسياب في قيمة و روعة المرافعة والاقناع و المناقشة والشفافة والاختلافات في الرؤيا الهادئة والهادفة، ونحو الانحراف بسلاح القانون و المقارعة برأي الفقه و الفكر وغير ذلك إلى ما يرضي من يملك قوة الضغط و التأثير، و هذا القلق بمختلف تلاوينه و مبرراتها هو من يمثل المخاطر الحقيقية التي تضعف مقاييس الحياد والاستقلالية وتدفع لا قدر الله إلى اقتراح المؤاخذات والعقوبات وفرضها على القضاة إرضاء للغاضبين و من تجرهم الحيرة وتجردهم أحيانا من الهدوء و الاتزان…
أذن امام تحولات نقلل من وزنها و لا ندرس آثارها ومستقبلها و سندفع ثمنها غاليا ، يمكن أن نسائل أنفسنا هل بدأنا مرحلة السنوات العجاف، وهل من الضروري أن نخلط الاوراق ونفتح عهد الصغط والتدخل في القضاء؟ ، فمن له مصلحة في أن نعود للنفق الذي حاولت إخراجنا منه المعالجة التاريخية لهيئة الانصاف والمصالحة لما وضعت اليد على أسباب الانتهاكات الجسيمة ولما رسمت طريق الخلاص أمام الوطن والمواطن معلنة أن القضاء هو الضامن للحقوق والحريات وللمساواة ولدولة القانون؟ وهل سنفتح من جديد أبواب المغامرة باهم سلطة وهي السلطة القضائية لتصبح فاعلا سياسيا مناورا خاضعا لموازين القوة و سهل الخروج عن الحياد وعن النزاهة وعن الاستقلال ومعانيه الحقيقية ؟ هذا لا يرضاه أحد منا.
لابد للمجلس الاعلى للسلطة القضائية أن ينتبه بجهد و بجد وبمسؤولية، سواء لواجب المساءلة والمحاسبة الذي هو من مهامه ويجب أن يمارسه في اطار المشروعية بعيدا عن أي تاثير، أو لواجب الالتزام بالحذر وتفادي أية ممارسة قد تعتبر توجيها أو ضغطا أو تلميحا لهذا القاضي أو لهذه الهياة أو لهذا التوجه أو ذاك ، فلهيبة القضاء ثمن باهض و لحقوق الضحايا والمتهمين وزن على عاتقه.
إنها مسؤولياته ثقيلة، وهي عملية تكتسي صعوبة لا يقلل من وقعها السلبي سوى التفعيل السليم لمدونة الاخلاقيات ولمقتضيات الدستور وتفادي العمل على تصحيح أخطاء قضائية بخلق وضعية أصعب وهي صناعة أحكام قضائية خارج المحاكم والمداولات، تحت الطلب أو تاثير السلطة أو على هوى ورغبات الأطراف.
إن البقاء على حماس المجتمع، و على يقظة الفاعلين القانونيين والحقوقيين ، وفي مقدمتهم القضاة والمحامين ، عناصر في حد ذاتها حيوية يلزمنا التعايش معها ، ولا يمكن أن تصبح أزمة إلا بعد أن تصل إلى توتر وتبتعد عن دور إذكاء الوعي وشد الانتباه والدعوة للتصحيح، و في القضية التي تعني الطفلة ضحية الاغتصاب الاجرامي الهمجي، ما يهمنا المناداة به بالاساس هو الدعوة للانضباط للأخلاق ولقواعد المحاكمة العادلة. بعناصرها المقررة في الدستور والقانون الدولي، وليس بدعوة القضاة لهذا التوجه او لآخر وليس بمطالبتهم برفع العقاب أو الحكم بالبراءة او بالاعفاء، أو منعهم من استعمال السلطة التقديرية في اطار القانون والمشروعية. بكل الشفافية والتعليل و التسبيب كما هو الشأن في كل الأنظمة القضائية الاكثر ديمقراطية الأصيلة في العالم.
إن ملف القاصرة ضحية الاغتصاب، ملف يدعونا للتفكير كذلك فيما هو أكبر من طلب رفع العقوبة أو بتخفيضها لأنه شئنا أم كرهنا سنسقط فيما يدخل في خانة إحراج القضاة وتضييق مجال حريتهم ووجدانهم وضمائرهم وتشجيع رؤسائهم للبحث عن التاثير عليهم و دفعهم للتطرف في قراراتهم ، إن قضية اغتصاب الطفلة القاصر تنادينا لنقاش مشترك حول ظاهرة تقف السلطات عاجزة عن وضع حد لها ومنها الاهمال والاستغلال و الانتهاكات اليومية التي لم تعد الفتاة القاصرة ولا الأم الطليقة أو المعنفة أو المعذبة قادرة أن تتخلص منها، إن قضية الاغتصاب موضوع الحراك الاخير تسائل ضعف الاداء التشريعي والبرلماني و التاخير في صناعة القوانين الحامية لحقوق الاطفال والنساء واطلاق مسلسل الملاءمة الذي ينتظر قوانين أساسية منذ بداية العمل بالدستور، إن القضية المعنية تفصح دعاة تزويج القاصرات وتكذب مقارباتهم المدججة بالابتزاز الايديولوجي المحافظ والمتخلف، وتطرح المراقبة والانتباه الأمني المستبق واليقظة الامنية القبلية والتي تشكو من خصاص أو من تأخير مقلق….الخ.
القاصرون والقاصرات يحتاجون إلى حماية حقيقية وإلى أمن قانوني وقضائي حقيقيين، يحتاحون لمدونة خاصة بحقوق الطفل، ولمؤسسات الاستماع و المواكبة في الأحياء وفي القرى والأرياف تقيهم من الاستغلال والتهديد ومن التمييز المجتمعي والمجالي، وتحميهم من شطط السلطات ومن كل عنف ممنهج.
أما القضاء فبقدر مسؤولياته في ضمان حريات الناس وحقوقهم، بقدر مسؤولياته في حماية ضحايا الاجرام والمجرمين ، وهذا الوعي هو ما لا ينبغي ان يغيب عنا ، وهو لا يتحقق الا بالاحتكام للقانون والمشروعية ، و استقلال القضاء والقضاة وعدم التدخل في أحكامهم، و هو الذي يضمن إصدار القرارات الصحيحة ويضمن ثقة المتقاضين فيها وفيهم.
*الرباط: 12/4/2023