إن العين لتدمع والقلب ليتقطّع للآلاف من خيرة شبابنا الذين يركبون قوارب الموت؛ منهم من يلتهمهم البوغاز، ومنهم من تُكتب له النجاة ويصل إلى الضفة الأخرى، ليجد نفسه في مواجهة الشرطة والبطالة والعنصرية والغربة، بل والموت أحيانا! كما حصل للشاب محمد المسعودي (في الصورة) الذي عُثر عليه ميتا في مدينة برشلونة!
يقول المثل الشعبي المغربي: “حتى مش ما كيهرب من دار العرس”، أي ليس هناك شخصا يهرب من بيته الدافئ! ولعل هذا ما ينطبق على كل مهاجر يغادر وطنه الذي يُحبه حتى النخاع مضطرا وعلى مضض. إما لأسباب مادية واقتصادية كما حصل لأجيال الهجرة الأولى وللعمال المهاجرين الذين دفعهم الفقر المدقع والحاجة الماسة إلى البحث عن فرص العمل خارج الوطن لإعالة أسرهم وإنقاذ أطفالهم من الجوع والبؤس. وإما لأسباب سياسية وأمنية يضطر جراءها ملايينُ الناس للجوء إلى بلدان أخرى قريبة أو بعيدة هربا من بطش الحرب واستبداد الحكام.
وهذا ما يسري أيضا إلى حد كبير على المهاجرين السريين الذين ينطلقون من السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط نحو الضفة الشمالية، التي يرون فيها الفردوس الأرضي المنشود، ويحلمون بالوصول إلى شطآنها النائية ولو سباحةً أو حتى على خشبة مهترئة. يحصل هذا رغم الحرب الضروس التي تمارسها خوافر السواحل اليونانية والإسبانية والإيطالية والبريطانية على كل من يقترب من حدودها، ورغم الحملات المناوئة التي تُطلقها مختلف الأحزاب السياسية والحكومات الأوروبية، وعلى رأسها اليمين المتطرف الذي يسعى إلى إجلاء المسلمين والأجانب وتنقية أوروبا منهم، ومن ثم تحقيق قومية عرقية صافية من أي دم غير أوروبي. بل ويختار شبابنا هذا المصير التراجيدي رغم خطورة هذه الهجرة وأهوالها، حتى إن الإحصاءات تشير إلى غرق 3800 شخص في البحر الأبيض المتوسط فقط خلال 2022.
عندما تَسْوَدّ الحياة في عيون شبابنا اليافع وتدلهم، وتُغلق الأبواب في وجهه، ولا تنفع المهارات المهنية التي اكتسبها، ولا تُغنيه الشواهد الجامعية التي تحصّل عليها من جوع أو سؤال، ويعرف من أقاربه وأصدقائه المهاجرين وعبر شبكات التواصل الاجتماعي أن فيه بلدانا وراء البحر يُكرّم فيها الإنسان، ويُعترف بوجوده، وتقدر موهبته، ويثمّن عمله ولو كان عاديا. عندما يتجشم شبابنا كل هذه المعاناة في مجتمعه وبين ذويه، ويشعر بالاغتراب النفسي والوجودي والاجتماعي في وطنه، بل ويكتشف أن هناك بديلا قد يحقق له ولو أدنى مستوى من الاستقرار والكرامة والوجود، فلا يُلام إذا امتطى قوارب الموت، وركب هول الأمواج، وسبح ضد التيار، لينفلت من الضياع والتهميش والفقر والموت البطئ في وطنه الذي يزخر بالثروات والخيرات والفرص الوردية، لكن فقط لمن يولد وفي فمه ملعقة من ذهب أو لمن حالفه الحظ أو لمن قدر له أن يصادف فرصة مواتية عبر الغفلة أو المحسوبية أو الوساطة.
من الأكيد، أن هناك شريحة صغيرة تمكنت من الاستقرار في الوطن والنجاح المادي والمهني في حياتها الاجتماعية، لكن هناك في المقابل شريحة عريضة من المعذبين في الأرض، وهي التي يتمحور عليها كلامي.
أجزم أنه لو كان الوطن رحيما بهذا الشباب المحتاج ماديا والمهزوز نفسيا، وسادت المجتمع العدالة والمساواة والديمقراطية، وأسندت الأمور إلى أهلها، لما اختار أحد مآل الهجرة السرية، ولما خاض أمواج البوغاز تاركا وراءه أُمّا تبكيه وإخوة يرثونه ووطنا يشيّعه!
الشاب محمد لم يمت في بحر البوغاز، لكنه مات في بحر الغربة، وهو مثال صارخ يعكس وضعية فئة عريضة من شبابنا الذي اختار الهجرة بعد أن انسدّت في وجهه كل الأبواب والفرص داخل الوطن. لو اعتدمت حكوماتنا العدالة الاجتماعية، ووزعت الثروات بشكل عادل، وقدرت مواهب الشباب، وأصغت إلى هموم المواطنين، لما فكر أحد في أن يهاجر بأي طريقة لبلوغ الضفة الشمالية. ربما لسافر شبابنا بكرامة من أجل الدراسة أو التجارة أو السياحة أو الدعوة. تماما كما يصنع شباب البلدان الأخرى التي تتميز عنها بلادنا بالتاريخ والجغرافيا والدين واللباس والطعام، لكنها تفضُلنا تلك البلدان في شئ واحد وهو العدالة.
يموت هؤلاء، ويموت كل مهاجر غربةً وحسرةً على فراق وطنه وأهله، ولسان حاله يردد قول الشاعر:
بلادي وإن جارت علي عزيزة /// وأهلي وإن ضنوا علي كرام
رحم الله تعالى الشاب محمد، وغيره من شباننا الذين التهمهم بحر البوغاز أو بحر الغربة، رحمة واسعة، وأحسن مثواه، وأدخله فسيح جناته، ورزق ذويه الصبر والسلوان.