الموضوع : ( بعض مظان الإيمان والكفر في القرآن الكريم )
توطئة :
كما كان الدَّأَب ، وصارت العادة في استقبال شهر الله الفضيل رمضان الكريم ، وكما جرت أمور السلف الصالح حين كانوا يتركون كل العلوم والمعارف ويلتفتون إلى كتاب الله العزيز قراءة وتفسيرا ومدارسة يسعدني أن أحيي في نفسي ، وفي كل من يود الانضمام هذا المنهج الحسن ، وألتفت بدوري إلى مائدة القرآن الكريم في هذا الشهر الفضيل ، وأطل من خلالها على ما استقر في النفس ، ونُسِجَت معه علائق القراءة والتفكر والتأمل عبر مجموعة من وقفات تَدَبُّرِ آي الذكر الحكيم ، وأتمنى من العلي في علاه أن يوفقنا ، وينفعنا ، وينفع بنا ، ويثيبنا على أعمالنا ، ويجعلنا من أهل القرآن ومن خدامه الغيورين عليه بالعلم والمعرفة ، والمنافحين عنه بالعمل والإنجاز ، وإيصال الآثار الحسن إلى كل قلب مومن متعطش للاستفادة والاستزادة من معانيه وأسلوبه ، ودُرَرِه ، وبراعة سَبْكِه ، وسلاسة هديه ، وقوة أفكاره ، وبلاغة أحكامه وحِكَمِه .
الحلقة الأولى : مقدمات عامة :
حين نقول بأن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان فإننا نقصد تلك المعرفة الواسعة القرآنية بالإنسان ، المستفيضة في أحواله ، والفاحصة لأفعاله التي لا تتبدل ولا تتغير لأنها تغوص في صلب هويته ، وتستبطن أسس فطرته الوجودية ، وتركيبات خلقه المتفردة ، وهذا ما يجعل مواقف القرآن الكريم صحيحة وسليمة في تحليلاتها وتعليلاتها ، وأحكامها ، وبمعايير الفكر والعلم والمنهج المتزن والمنصف ، وقد تعرضت تلك المواقف ، ولا زالت تتعرض ، وستبقى معرضة للتحليل والقراءة والمدارسة إما بنزاهة وحنكة معرفية ، وإما بأنانية وتدليس وعداء كما يُشاهَد في الكثير من المواقف عبر التاريخ ، ومع ذلك بقي ما قاله القرآن الكريم راسخا في النفوس ، وحاضرا في الموازنة التحليلية على صعيد الحقائق والنتائج الثابتة السرمدية التي تحوز على القدر العالي والمطلق من الصدق والمصداقية في مجموعة من الأمثلة الوجودية التي تُلاحظ يوميا على مسرح الحياة ، وتتكرر بصبغتها القرآنية في كل الوجود .
من هذه الحقائق الدائمة والمصاحبة للإنسان بمفهومه العام مسألة ، أو ثنائية الإيمان والكفر .
وفي هذا الصدد سنتحدث في تأملاتنا الجديدة عن بعض النماذج ومضامين الآيات المتضمنة لبعض مواقف ثنائية الإيمان والكفر لنطالع محتوياتها ، ولنرى كفايتها في التحليل ، وحنكة التتبع لمظاهر وتفاصيل الثنائية المذكورة ، كما سنقف من خلالها على معالم الإحاطة والإقناع والحسم الفكري الصحيح عبر صور ووقائع كونية متجددة ، تستند على دلائل قوية من العقل والعلم ، وتقدم للقارئ وسائل النظر الناجعة في الموضوع ، وتبصره بما يجري في التاريخ من أحداث تكاد تكون مكررة ، وتزوده من من خلال كل ذلك بعوامل الارتياح والطمأنينة النفسية ، وتثبت أمامه صفات وحقائق قوية على قدرة الله تعالى ، ولن يكون في نهاية النهايات إلا ما يريده سبحانه وتعالى لأنه الوحيد الدائم ، وما عداه فهو مؤقت زائل : ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ – يوسف : 21 – يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ – الصف : 8 ) .
ومثل هذه الآيات وشبيهاتها تعتبر من قوانين الكون وقواعد الوجود المحيطة والمتحكمة في مصائر كل الكائنات بلا تحوير أو أخطاء ، ولهذا وكما أومن بأشد ما يكون الإيمان فلا خوف على دين الله ولو كثر حوله الذباب الذي يتجمع حول حِجر الجواد الأصيل ليعرقل سيره الممشوق ، وفي أحيان كثيرة تسير أمور ، وتظهر علامات تنبئك بأن الله تعالى قد أزاح كل إمكانيات البشر من سبل النصرة والتأييد والإظهار ولو كانت مومنة ، تملك القدرة الكافية والمسعفة لإحداث التتويج المرجو ليتولى بنفسه أمور الوجود ، وليدل بذلك على قدرته وأفعاله الخفية من أجل لفت انتباه الطواغيت انطلاقا من أنفسهم وفيما حولهم ، ومن أجل إثبات ماهية ألوهيته المطلقة ، وشمولية ربوبيته ، وتحكم إرادته ، وغلبة أمره على كل أمور خلقه : ( مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ – الحج : 74 – وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ – الزمر : 67 ) .
وما دمنا نتحدث عن قواعد الكون المتحكمة أبدا بلا تغيير أشير إلى ما تضمنته سورة آل عمران من مواقف الحسم الإلهي مما يشعر معه الإنسان المومن بطمأنينة مطلقة ، وبأمل واسع على أن الحياة تدبر من لدن حكيم عليم بما تقتضيه اللحظات المتعاقبة ، وبما يتلاءم مع الأمكنة من أحداث ، يقول الله تعالى في الآية 101 : ( وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمُ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ويقول في الآية : 145 في شأن حقيقة أخرى هي حقيقة الموت : ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ) ويقول في الآية : 168 : ( الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) .
وبالعودة إلى موضوع الإيمان والكفر سنلاحظ أنها هي الأخرى قد وقع فيها القول الفصل الإلهي ، يقول الله تعالى انطلاقا من الآية : 175 من سورة آل عمران : ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَا يُحْزِنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .
بهذا تصير الأمور واضحة ، ويبدو أن ثنائية الإيمان والكفر هي من تجليات الكون القائمة والملاحظة في طيات الزمان كله ، وفي أحداث كل الأمكنة ، وعلينا أن نَعِيَها كما هي ، ونحاول قراءتها والتعامل معها في سياقاتها الدنيوية الدائمة ، ولكن بعقل وروية وأمل واطمئنان كما سنرى كل ذلك في المظان التي سنشرع في معالجة محتوياتها المختلفة والمتعددة من مختلف السور القرآنية ، وهي مجال أقوالنا وأحاديثنا المرتقبة في الحلقات المقبلة بحول الله تعالى .
( يتبع )