‏آخر المستجداتلحظة تفكير

توفيق بوعشرين: تضارب المصالح ..لا تحملوا اخنوش ما لا يطيق رجاء

هذه الافتتاحية عمرها سبع سنوات، كتبتها قبل 45 يومًا من الذهاب إلى السجن، وأعيد نشرها هنا بمناسبة الفضيحة الكبرى لتضارب المصالح التي عصفت بما بقي من سمعة رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، الذي اعترف أمام البرلمان بأن شركته استحوذت على أكبر صفقة عمومية لتحلية ماء البحر بقيمة مليار و600 مليون دولار. وفوق هذا، ضمنت شركته الجديدة لنفسها 50 هكتارا من الأراضي بالمجان وتخفيضًا ضريبيًا استثنائيا، ودعمًا عموميًا سخيا، وعقدًا مع الدولة لشراء الماء المحلَّى لمدة 30 سنة بلا انقطاع، بمعنى “الحبة والبارود من دار القايد… والحسود في عينه عود!”

أنا واحد من القليلين الذين لم تصدمهم هذه الأخبار، ولم يفاجئني “كفر” عزيز أخنوش بشيء اسمه تضارب المصالح. هذا رجل ولد وكبر واغتنى وتمدد في كنف الريع، وتربى في حجر إدريس البصري. فكيف تطلبون منه ما لا يطيق، وما لا يعرف، وما لم يتربَّ عليه؟ حرام عليكم! ارحموا رئيس حكومتكم، ولا تقلقوا راحته وراحة تجارته ومحطاته وشركاته ومولاته وملياراته وريعه. لا تطردوا النوم من عينيه ببنود الدستور أو مقتضيات القانون أو مدونة الأخلاق. هذا قاموس غريب على “ولد لفشوش”، وهذه لغة لا يفهمها.

ولد أحمد أولحاج لا يرى فارقًا بين السياسة والبزنس، ولا يرى ما يمنع رجل الأعمال من استغلال الموقع والنفوذ والتوقيع العمومي لتنمية ثروته وتوسيع شركاته. فهو، مثلًا، لم يأخذ علمًا بأن الدستور الجديد يمنع تضارب المصالح، لأنه، كرجل أعمال، يخلط السياسة بالبزنس منذ زمن سابق على الدستور الجديد (والدساتير، كما القوانين، لا تطبق بأثر رجعي). كما أن غياب المحاسبة والمراقبة في البلاد، سواء مراقبة المؤسسات أو مراقبة الإعلام أو مراقبة البرلمان، يجعل من ربط المسؤولية بالمحاسبة جملة إنشائية ركيكة وبلا معنى في عرف اخنوش.

فكيف تطلبون من رئيس حكومتكم أن ينضبط لقواعد القانون؟ فأول درس يتعلمه طالب الحقوق أن من خصائص القاعدة القانونية الإلزام والعقاب على المخالفة. ومادام سهم عزيز في تصاعد منذ عقود، ومادام الجميع يوقره ويخافه ويطمع في شيكاته، فلماذا يقلق من شيء اسمه تضارب المصالح؟ أصلًا، المصالح في عُرف أخنوش لا تتضارب ولا تتنازع، ودائمًا ما تجد طريقًا للوئام. وحدهم الفقراء والمهمَّشون و( المحشرين ) هم من يتضاربون ويتنازعون !.

السيد عزيز أخنوش سجل اسمه في التاريخ كأقوى رئيس حكومة في كل تاريخ المغرب. استطاع أن يشارك في الحكومة الواحدة بحزبين ( حزب الأحرار وحزب أكوا)، واستطاع بماله وعلاقاته أن يبسط سلطته على الحكومة، والبرلمان، والجهات، والجماعات الترابية، ومؤسسات الحكامة، والمواقع الحساسة في الإدارة مستغلا ظروف المرحلة!!. وكل من يقلق راحة السي عزيز يجد نفسه في السجن، أو يعرض نفسه للإقالة (مثل الكراوي)، أو يلقي بشركته بين أسنان المراجعات الضريبية. والباقي تتكفل به غابة المنابر الصحفية التي أنشأها أو يمولها.

كان الرئيس الراحل أنور السادات يقول لمعارضيه: “أنا لست جمال عبد الناصر الذي كان يملأ السجون بمعارضيه. أنا لدي أسلوب أكثر خطورة وتدميرًا، سأطلق على معارضي كلاب الصحافة لتنهش لحومهم كل صباح.”

حكايةمن عالم آخر

إليكم مثال من بريطانيا حول «تضارب المصالح».. هذا الداء المنتشر بكثرة في المغرب، والذي لا يزعج إلا القليلين، عن حسن نية أحيانا، وعن سوء تقدير في أغلب الأحيان.
قبل أشهر استقالت السيدة شارلوت هوغ من منصب نائبة محافظ البنك المركزي في إنجلترا «بنك أوف إنغلند»، حيث لم تعمر في مكتبها سوى أسبوعين، وذلك نصف ساعة بعد نشر تقرير صادر عن لجنة برلمانية مكلفة بتدقيق تعيينات موظفي البنك المركزي (دركي الأبناك)، المسؤول عن مراقبة المعاملات المالية، والتقيد بقانون المنافسة والشفافية وسط بحر المال، حيث تتصارع الحيتان الكبيرة.
لماذا استقالت السيدة شارلوت نصف ساعة فقط بعد نشر تقرير اللجنة البرلمانية البريطانية المكلفة بتدقيق التعيينات؟ تمالكوا أنفسكم… السيدة شارلوت متهمة بأنها أخفت عن إدارة البنك المركزي يوم انضمت إليه سنة 2013، أي قبل وصولها إلى منصب نائبة المحافظ العام للبنك المركزي، معلومة مهمة، وهي أن شقيقها يشغل منصب المدير المسؤول عن وضع استراتيجية العمل لمجموعة بنك باركليز. وقالت اللجنة في تقريرها إن السيدة شارلوت ذكرت، أمام اللجنة البرلمانية التي استجوبتها حول هذه النقطة، أنها لا تناقش أمور العمل مع شقيقها الذي يشغل منصبه في بنك باركليز منذ سنوات طويلة، وأنها لم يسبق أن جمعتها بأخيها تجارة أو عمل أو عقد استشارة… لكن، مع ذلك، فإن إحجام السيدة شارلوت عن ذكر هذه المعلومة يوم دخولها إلى البنك المركزي فيه مخالفة لمدونة السلوك «Code of conduct»، ولم تشفع للسيدة شارلوت شهادة اللجنة البرلمانية في حقها، عن كونها أدت مهامها في كل المناصب التي تدرجت فيها بكفاءة عالية ونزاهة لا يمكن التنكر لها، لكن إخفاء معلومة أن شقيقها موظف كبير في بنك تقع مراقبته تحت سلطة البنك المركزي أمر يمس الأخلاق، حتى وإن لم يمس القانون.
نائبة مدير البنك المركزي لم تتأخر في تقديم الاستقالة، وكان في استطاعتها أن تقوم بحملة علاقات عامة وتواصل مع الإعلام، وتقول إنها لا ترى تضاربا للمصالح بين عملها وعمل شقيقها، وإنها، في كل الأحوال، مجرد نائبة مدير البنك المركزي، وإن فوقها رئيسا يراقب أعمالها، وإنها أخبرت اللجنة البرلمانية بأن أخاها يشتغل في باركليز يوم تعيينها في منصب نائب المدير، وإنها نسيت أن تكتب هذه المعلومة يوم دخولها إلى البنك في استمارة التوظيف، ولم يكن آنذاك ميثاق الأخلاقيات يشترط هذا الأمر (شارلوت هي من وضعت مدونة السلوك بعدما دخلت إلى البنك المركزي)، وكان يمكن أن تقول إن تقرير اللجنة البرلمانية ليس له طابع الإلزام، وإنه استشاري فقط. وإذا كانت شارلوت «جبهتها قاسحة شوية»، ستقول إن تقرير اللجنة البرلمانية مسيس، ومعادٍ للمرأة، ويستهدف التمييز الجنسي ضد بنات حواء، وكان يمكن أن تقول إن أخاها ليس من أقارب الدرجة الأولى، كأبيها أو زوجها أو ابنها، بل هو فقط أخوها غير الشقيق «من الفوق».. لم تنهل شارلوت من أدب التبرير هذا، ولا لجأت إلى الحيل الكلامية، بل قدمت استقالتها من منصب رفيع، وذهبت إلى بيتها دون أن يطلب منها أحد ذلك، ليس بالضرورة لأنها قديسة، وليس لأن داخل رأسها ضميرا يطرد النوم من عينيها، وليس بالضرورة أن تكون شارلوت على قدر كبير من التربية والنزاهة، لكنها تعرف حساسية البريطانيين من آفة تضارب المصالح، وشبهة الاقتراب من هذا الخلط بين الخاص والعام، بين المصلحة الذاتية والمصلحة العمومية، بين المنصب واستغلال النفوذ، بين الخلط بين السلطة والبزنس، وإذا استمرت في المنصب ستستمر ضعيفة وفوق رأسها شبهة.
يمكن تعريف «تضارب المصالح» بأنه كل تصرف أو موقف أو قرار أو معلومة تحقق مصلحة مادية أو معنوية خاصة لهيئة أو شخص بأي شكل من الأشكال، يقوم بها مسؤول عمومي (رئيس حكومة أو وزير أو رئيس جماعة أو جهة أو موظف أو مدير)، حيث يستفيد هو أو أقاربه من وضع غير متاح للآخرين.
هل هناك حاجة إلى القول إن الدستور المغربي، لأول مرة، جرم «تضارب المصالح»؟ لا داعي إلى ذلك مادامت القوانين التي جاءت بعد ذلك، خاصة القانون التنظيمي لعمل الحكومة، قد أفرغت المبدأ الدستوري من روحه، ولا داعي إلى الحديث عن الدستور والقانون مادام الواقع في واد والنصوص في واد آخر، وأن النص المكتوب في لوح الدستور، إذا لم يحترم، لا يساوي ثمن المداد الذي كتب به.
في الحكومة الحالية والسابقة شواهد عديدة على تضارب المصالح، وخروقات بالجملة في تجاوزات وزراء ومديرين وموظفين للقانون، وسقوطهم في تضارب مصالح صارخ، لكن، لا حياة لمن تنادي، وإذا تجرأ أحد واقترب من الضيعات المحمية لهؤلاء، فإنهم يخرجون أسنانهم وأظافرهم وألاعيبهم ومؤامراتهم لحماية الريع الذي يسبحون فيه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لذلك، فإن قصة شارلوت من بريطانيا تظهر لهم هنا وكأنها ضرب من الخيال غير العلمي.

05/01/2018

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button