لايولد الإنسان إنسانا بل يصير إنسانا بسيرته فوق هذه الأرض.
يصير إنسانا عندما يختبر كل يوم في إنسانيته،
يصير إنسانا حينما يشعر بألم الآخرين.
يصير إنسانا عندما يبدي التعاطف مع من يستحقه دون أن يطلب منه ذلك، ودون أن ينتظر مقابلا أو شكرا أو حتى اعتراف.
يصير الإنسان إنسانا عندما يخاطر بأمنه بماله بوقته بمنصبه بمكتسبات باطمئنانه من أجل قضية عادلة، أو موقف نبيل، أو كلمة حق في الأوقات الصعبة، واللحظات الحرجة، حيث يؤثر الآخرون الصمت أو الابتعاد عن الخطر، أو النجاة بالجلد، خاصة عندما توقد النيران في مطابخ المؤامرات، ويحمل الحطب إلى الموقد من أجل تدمير مواطنين عزل وحقوق هشة وأشخاص بلا شبكات أمان من حزب أو نقابة أو قبيلة أو سلطة، أحرار كل جريرتهم أنهم اختاروا السير ضد التيار، وتشبثوا بحقهم البسيط في القول أو العمل أو الكتابة أو الاحتجاج أو حتى إشعال شمعة في الظلام.
ما فعلته الجمعيات الحقوقية والهيئات المدنية والأصوات الحرة، وفريق محامي الدفاع عن الصحافيين والناشطين والمدونين، هو في الواقع بيان حقيقة على إنسانية كل واحدة وواحد من هولاء…
تضامن ونضال كل هؤلاء كان وما يزال وسيبقى نقطة نظام في وجه الظلم والعسف والاستخفاف بحياة الآخرين ومصائرهم ، تضامن الأحرار والحرائر مع المعتقلين السياسيين كان سلطة مضادة لسلطة آلة ضخمة كانت تجرف كل من يعترض طريقها بلا رحمة ولا شفقة ولا اعتبار لقانون أو لخطوط حمراء كانت غالبا ما تٌحترم في صراع السلطة مع خصومها في بلادنا …
ليس السجن أسوء ما تعرضنا له خلال السنوات الماضية نحن المحتفى بحريتهم اليوم، بل التشهير اليومي بنا وبعائلاتنا وبأطفالنا وبأسمائنا وبكرامتنا في إعلام لا يشبه الإعلام ، وصحافة لا تمت بصلة إلى الصحافة، ومواقع تنهش الأعراض وإذاعات وتلفازات رسمية تتغذى على لحوم زملائها حية بشهية منقطعة النظير وعلى مرآئ من نظر وسمع،”الهاكا” وكل مؤسسات الحكامة التي لم تحرك فيها هذه المجزرة رمشة عين أو إحساس بالذنب.
لم تبق هذه الآلات التي تحفر عميقا تحت الجلد البشري من حقوق للمتهم ، ولم توفر له ذرة من قرينة البراءة، ولم تترك لعائلتنا متنفسا لتستوعب هول ما حدث،كل شيء كان جائزا وكل الضربات كان مسموحا بها، في انتظار ليلة شحذ السكاكين في الغرفة الشهيرة للمحكمة بغرفة الجنايات رقم ثمانية بمحكمة الاستئناف بالبيضاء …
حتى القضاة على قسوة أحكامهم كانوا أحيانا أرحم من آلات التشهير، ومعاول الهدم، وأوراش سلخ اللحم البشري حيا هذه، تلى القضاة أحكامهم على هولها وانسحبوا بسرعة البرق حيث لا يتطلعون في عيون أحد.
لكن ها نحن هنا بفضل تضامنكم، وبفضل مبادرة ملكية نبيلة مهد لها أشخاص في مواقع مختلفة هنا وهناك. وها نحن هنا لنقول لكم ولهم شكرا أن وضعتم نهاية لكابوسنا، ووضعتم نهاية لعذاباتنا داخل الزنازين الرطبة، ووضعتم نهاية للرحلات المكوكية لعائلاتننا إلى السجون، سمحتم لنا أن نرى أطفالنا يكبرون أمامنا، لا ان نراهم يذبلون في قاعات زيارة المساجين لدقائق كل أسبوع او أسبوعين.
مع كل هذا الألم والجرح النازف، لقد رأيتم إبتساماتنا عند لحظة الخروج من قبر الحياة، وعبور البوابات الحديدية الضخمة للسجون. هذه الإبتسامات على وجوه المعتقلين المفرج عنهم ليست فقط لحظات للتعبير عن فرحة معانقة الحرية، إنها تعبير أيضاً عن خلو قلوبنا من الحقد أو الإنتقام و الإنكسار .
على هذه الأرض المسماة مغربا متسع للجميع، إذا ضمنت الدولة لكل مواطن إمكانية العيش تحت سقف القانون وفي كنف الحرية .. آه من هذا قانون، هذا الكائن الهش الذي يٌعطب بسرعة وتٌلوى عنقه بيسر في بلاد تقاليدها في توقير القانون قليلة إلى شبه منعدمة، خاصة في زمن الصراعات وتوقيت الحملات وزمن المحاكمات السياسية، لقد افتقدنا القانون في هذه المحنة، وأملي ان يرجع وافدا جديدا موقرا ومحتفى به بيننا، بعد أن طٌرد بقسوة من المحاضر وصكوك الإتهام ومقررات الأحكام، أملي أن تتسع هذه المبادرة الحقوقية إلى أن تصير عنوان مرحلة كاملة وبداية جديدة لإنفراج حقيقي في السياسة كما الصحافة كما في الحراك الحقوقي والاجتماعي الاقتصادي …
يصير الإنسان إنساناً ولا يولد إنساناً.
*نص الكلمة التي ألقاها توفيق بوعشرين في حفل استقبال نظمته المنظمات الحقوقية التي أزرت معتلي الرأي في الرباط يوم السبت 10 غشت 2024