” يا لهُ من شيءٍ مُدهِش” و ” جلال الدين الرومي ” و ” الهدية”
ــــــــــــــ
يا لهُ من شيءٍ مُدهِش
لا أعرفُ ما الشَّيءُ المُدهِشُ الذي
يسْتَمِرُ الطَّائرُ الأَزرقُ في قَولهِ
يَخْرُجُ صَوتُهُ بِيسرٍ من حلْقهِ
و مِنقَارهِ و جَسَدهِ إلى الجَوِّ الوَرديِّ
في الصَّبَاحِ البَاكِرِ
أحبُّهُ مهما يكُن
يبدُو أحيانًا كَأنهُ الشَّيءُ الوحيدُ في العَالمِ
الذي يَخلُو من الأفكارِ المُعتِمَةِ
يبدُو أحيانًا كَأنَّهُ الشَّيءُ الوحيدُ في العَالمِ
الذي يخلو من الأَسئلةِ التي لا يمكِنُ أو ربَّما
لن يُجَابَ عنها أبدًا
كأنَّ الصباحَ الورديَّ و الأبيضَ الصَّافي هو الشَيءُ
الوحيدُ الذي أكتفى به و أمتنُّ له.
…
جلال الدين الرومي
….
عندما ذهبَ جلالُ الدين الرُّومي *إلى الحَانةِ تتبَّعتُهُ
سمعتُ الكثيرَ من الكلامِ المَجنُونِ
و الكثيرَ من الكلامِ الحَكيمِ
لكنَّ الأَزهارَ لم تنْمُ في شَعْري
عندما غادر الرُّومي الحانةَ تتبَّعتُهُ
لا أعني أنَّني أَلقيتُ نظرةً خَاطِفَةً
على هذا الشَخصِ الشَّهيرِ
في الواقع كان سَخِيِفًا بِلِحيتهِ الطويلةِ
و قَدمَيهِ المُتربتيْنِ
و لكن سَمِعتُ القليلَ من الكَلاَمِ المَجنونِ
و الكثيرَ من الكَلامِ الحَكِيمِ
و كُنتُ آملُ أن أستمرَ في الاستِماعِ إليهِ
إلى أنْ جاء اليوم الذي وجدتُ نفسي فيه
قد تحولتُ إلى حديقةٍ كاملةٍ من الأزهار .
…………………..
*جلال الدين الرومي ، أحد أبرز أقطاب التصوف الإسلامي ،وصاحب الكتاب الأشهر في الشعر وهو “مثنوي”وكتاب “شمس تبريز “.
…..
الهدية
….
اهدئي يا روحي اثبتي
ما زالت الأَرضُ و السَّماءُ تُرَاقبان
و بالرغمِ من نفادِ الوقتِ من سَاعتكِ
و مشيتكِ البطيئةِ التي كانت سريعةً وواثقةً من قبلِ
تمهلي إذا كان لابد من ذلكِ
اتركي القلبَ يَظهرُ بِوجههِ الحقيقيِّ
ما يزالُ الحُبُّ يستمرُ كما كُنتِ تُحبين ذات مرةٍ
بِعُمقٍ و من دون صبرٍ
ليعرفَ اللهُ و العالمُ أنكِ مُمتنةٌ
أن الهدية قد مُنحَت.
ماري أوليڤر ” الشاعرة المتصوفة الرؤيوية”
ولدت ماري أوليڤر الشاعرة و الروائية الأمريكية في ولاية أوهايو بالولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٣٥ و توفيت إثر إصابتها بسرطان الغدد الليمفاوية عن عمر يناهز ٨٣ عامًا في ولاية فلوريدا عام ٢٠١٩.
الشاعرة إدنا سانت ( ١٨٩٢-١٩٥٠ ) كان لها الأثر الأول و الأقوى في بناء شخصية أوليڤر الشعرية و الأدبية حيث عاشت لسنوات في منزلها ، حيث كانت تلتقي بالكثير من الأدباء و الشعراء و أدى ذلك إلى صقل موهبتها في الشعر و الكتابة ، و هناك التقت بشريك حياتها المصور مولي مالون كوك( ١٩٢٥-٢٠٠٥ ) و انتقلت بعد ذلك للإقامة معه في منزله ببروففينستاون بولاية ماساشوستس و تشتهر هذه البلدة بالمناظر الطبيعية الخلابة التي تأسر الروح و القلب و كانت مصدر إلهامٍ كبيرٍ لماري في كتابة قصائدها حيث اشتهرت بعد ذلك بحبها للطبيعة و الحياة البرية .
أكثر الشعراء لم يكتبوا عن الطبيعة كتيمة أساسية في معظم قصائدهم ، و على عكس ذلك ، امتازت ماري بالكتابة عن الطبيعة و الحياة البرية في معظم قصائدها.
في صحيفة نيويورك تايمز كتب ستيڤن دوبينز : ” على الرغم من أن عددًا قليلا من الشعراء تناولوا في قصائدهم الطبيعة ، فإن ماري أوليڤر تفردت بذلك و مضت تمدح و تُغازل فهي من مواليد إحدى هضاب ضواحي كليفلاند عاشت مع عائلتها حياة البراري و بناء الأكواخ بالعصى و العشب في الغابة المجاورة.”
و من أهم أعمال ماري أوليڤر: ” منزل الضوء” The House of Light, و ” لماذا أستيقظ باكرًا” Why I Wake Early, ”ظمأ”Thirst, ”دليل” Evidence,”خيول زرقاء” Blue Horses, ”الورقة و السحابة” The Leaf and the Cloud, ” مراعٍ زرقاء” Blue Pastures, ”قواعد للرقصة” Rules for the Dance, ”ساعات الشتاء” Winter Hours.
كانت ماري أوليڤر من أشهر الشعراء و الأكثر مبيعًا في الولايات المتحدة الأمريكية ،حيث حصدت العديد من الجوائز الشعرية الرفيعة منها جائزة البوليتزر في الشعر عن ديوانها الرابع ” بدائيٌّ أمريكيٌّ”American Primitive، و جائزة الأكاديمية الأمريكية للفنون و الآداب ، و جائزة الكتاب الوطنية و جائزة لانان للإنجاز الأدبي للشاعر في فترة حياته و غيرهم من الجوائز الكبيرة.
يمتاز شعر ماري بالنقاء و العذوبة و الروحانيات و السلاسة ، و برغم سلاسته فإنه عميق في المعنى و المضمون و الرسالة حيث كانت تربط الوجود الإنساني بالطبيعة و الطيور و الحيوانات متأثرة في ذلك بعيشها في حياة البراري مع عائلتها و إقامتها مع شريك حياتها كوك في بلدة تمتاز بالطبيعة الخلابة، كما أنها عُرفت ” بشاعرة المتصوفة” حيث إنها كانت تقرأ لجلال الدين الرومي (١٢٠٧-١٢٧٣) يوميًّا و نتيجة لذلك أصبح لديها حسٍّ صوفيٌّ عالٍ انعكس على قصائدها بصورة واضحة و تجلى ذلك في التأمل في الوجود و ربطه بالذات الإنسانية حيث كانت تستخدم الطبيعة أداةً لكشف الذات العميقة للإنسان فتحدثت في قصائدها عن البوم و الإوز البري و الضفادع و الشمس و النجوم و السماء و الأرض و قد ساعدها على ذلك شفافية روحها و نقائها الفطري ، و قراءتها جلال الدين الرومي بصورة يومية ،حيث أدمنت قراءته ، فكتبت قصيدة عنه بعنوان جلال الدين الرومي ” Rumi’’ و كان ذلك إثباتا حقيقيا على مدى تأثرها به:
‘’ When Rumi went into the tavern I followed’’
”عندما ذهب جلال الدين الرُّومي إلى الحَانةِ تتبَّعتُهُ”
‘’When Rumi left the tavern I followed’’
”عندما غادر الرُّومي الحانةَ تتبَّعتُهُ”.
في قصيدة ” جلال الدين الرومي” ذكرت ماري أوليڤر كلمة ” followed’’ مرتين ،و ذلك التكرار لتأكيد تأثرها و اتباعها أثر و فكر جلال الدين الرومي و هذا الأثر الكبير تجلى أيضا بصورة واضحة في قولها :
‘’I was hopeful enough to keep listening ,
until the day I found myself ,
transformed into an entire garden of roses’’
”و كُنتُ آملُ أن أستمرَ في الاستماعِ إليهِ،
إلى أنْ جاءاليوم الذي وجدتُ نفسي فيه
قد تحولتِ إلى حديقةٍ كاملةٍ من الأزهارِ”
شبهت ماري تأثرها بجلال الدين الرومي بأنها تحولت
إلى حديقة كاملة من الأزهار من فرط قراءتها له و حبها الشديد لشعره ، فحبها الشديد له و تأثرها به أنبت في روحها أزهارا غنَّاء كأنها الجنة .
قصيدة تضح فيها براءتها و شفافيتها و نقاءها و تأثرها بالصوفية لدرجة أنها توحدت مع روحها و خلقت لنا قصائد شعرية بمثابة سيمفونيات موسيقية تعزفها بأصابع صوفية روحانية شفيفة.
أما عن قصيدة الهدية ” The Gift’’ فتحدثت فيها عن تيمتين أساسيتين ” الطبيعة ” و ” الامتنان” الامتنان لنعمة الحياة ذاتها ، و دعوة للتأمل في خلق الله ،كالسماء و الأرض ، و أيضا دعوة لتنقية القلب من الشوائب ؛ التي قد تعوق القلب من أداء دوره الطبيعي في الحياة و هو الحب و الإحساس بالآخرين و التعاطف ، و أن الحب يحيا بنا مادامت الحياة مستمرة و أن الحياة هدية و منحة من الله لنا و علينا أن نمتن له بوجودها .
وقد أُطلق على ماري أوليڤر لقب ” الشاعرة الرؤيوية ” – و الشاعر الرائي آرثر رامبو ( ١٨٥٤-١٨٩١ )هو مخترع هذا المصطلح ففي رسالة إلى صديقه بول دومني شرح ما يقصده من هذا المصطلح و قال: ”أن نصل إلى المجهول عن طريق خلخلة كل الحواس” و وجد أن من تستحق هذا اللقب عن جدارة هي الشاعرة ” ماري أوليڤر” أي أنها استطاعت أن تُوقِظ و تُشعل الحواس بدعوتها للتأمل و استشعار النعم التي منحها الله لنا كنعمة الحياة و الوقت و الطبيعة و التي من خلالها استطاعت أن تكشف لنا أسرار الذات الإنسانية و علاقتها بالطبيعة و الكائنات و قد ساعدها على ذلك ” نعمة البصيرة ” التي منحها الله إياها و بحدسها استطاعت أن تكشف من خلال قصائدها ؛ ما في الباطن و تُظهر لنا المخبوء و الخفي في الذات الإنسانية، و بسموها الروحاني و شفافيتها استطاعت أيضا أن تكشف لنا أسرار الوجود الإنساني ، و تأثرها بالصوفية و قراءتها الدائمة لجلال الدين الرومي أصقلت روحها و أمدته بنورٍ ربانيٍّ شفيفٍ قد تلمسه في قصائدها الشعرية و حتى في كتاباتها النثرية ، و أُحب أن أنهي حديثي عن هذه الأيقونة الشعرية النادرة ببعض من اقتباساتها التي قد توضح بعض ملامح من شخصيتها :
”انتبه إليَّ جيدا -أتُسمي هذه حياة فقط لأنك تُخرج أنفاسًا معدودةً” .
” شخص ما كان قريبًا مني ، أهداني صندوقا ممتلئا بالعتمة ، استغرقت عمرا كي أفهم أن العتمة كانت هدية أيضا”.