كتب: عبد الواحد الطالبي ـ
عشرة أيام لأواخر رمضان في مكة المكرمة، ألهمت الزميل عبد الواحد الطالبي لتوثيق مشاهدات عابرة في يوميات صادفته أثناء أداء مناسك العمرة هذا العام خلال الشهر الفضيل، ينقلها دون تكلف وبغير قصد من شأنه الإضرار بأي طرف أو المساس بأية مشاعر، فإنما على الله قصد السبيل في الإعراب عن خوالج الصدر من أحاسيس عب اليراع مداده من فيض غمرها فسال على صفحات يبثها موقعنا الإخباري على حلقات
مضت سنوات على اعتماري في كل موسم، غير أني هذه المرة وجدتني في رعية القطيع لا حول لي ولا قوة ضمن مسارات تقودني مئات الأمتار بعيدا حتى تقذفني فوهة المؤذن حيث أنا ولا أنهض سوى إذ يفرغ المصلون من شعيرتهم في الكتاب الموقوت.
أول مرة صادفت زحاما في عمرة رمضان غير مسبوق، وتنظيم المتاهات في المرور والعبور من فيالق شرطة وأمن يحسنان فقط توجيه المعتمرين والمصلين بعيدا عنهم ولا يدرون الى أين…
العشر الأواخر في الحرم مأجورة ليس لأنها بوصية من الرسول صلى الله عليه وسلم يوقظ فيها المسلم أهله ويشد مئزره ويقيم ليله، بل لأنها صبر على احتباس البول في المتانة كيلا تبرح مكانك تصلي فيه وتضيع؛ والصبر على طابور طويل في دورات المياه لتفريغ أحشاء استمسكت أن تخوي حواياها من عجوة لزجة وفطائر دسمة وأرز مضغوط مخلوط بلبن….فيمد وقت الانتظار حتى يشفق المعي ويرق لحال صاحبه فيعفيه إلا من ريح يتجدد إثره الوضوء؛
كما أنها صبر على أجناس من كل لون ولسن لا يقيمون للمشعر وزنا سوى بقدر ما يدر عليهم من أرباح تجارة يسحلون فيها المعتمر والحاج بالسعر الذي يكوي الجيوب…
الغلاء نار في كل مواد ما يبتاعه المعتمر من غذاء ومتاع، يصلي فيها الريال عملات كسيحة يفقأ الدولار عيونها ويقذف بها في سلة الشحاتة تقتات من فضلات “الخرداوات” في سوق تغري الذين يشتهون ويشترون والذين يشتهون ولا يقدرون.
سوق مكة ما تزال محافظة على أصول تجارتها وتراث تاريخها، بما هي مهوى الأفئدة ومقصد الحجيج من كل فج عميق، يغدق فيها أهلها مما رزقهم الله من الثمرات، لهم سعي وفيه كد وجهد للسقاية والرفادة والوفادة حتى لا يكاد فيها امرؤ يشكو جوعا أو عطشا…
ولأولي الأمر ومن والاهم نصيب من كرم الرعية، متمسكين بأخلاق العرب في التاريخ المجيد لأمة الجزيرة، ديدنهم حرص مكين على ضيوف الرحمان في ما يهيئ بنية استقبال ليست تحتاج لأكثر من دعم بلاد الإسلام بتأطير مواطنيها وتأهيلهم من الحجاج والمعتمرين ليكونوا على قدر ما يتوفر لهم من ظروفٍ تُيَسِّر أداء المناسك بسلاسة ومرونة ودون وعثاء.
أشفقتُ على نفسي كثيرا وأقنعتها بأن ما أتجشَّمه بإشارة الشرطي وإيماءة الضابط على حواجز منصوبة عند المداخل وعلى البوابات وفي الطرقات، يحصل لديها منه الأجر والتواب أكثر، ويتضاعف يقيني بالنظر لعجوز شيبة الحمد وشيخ حرض يدفع ساقيه على بطء خطواته ليحملا قدمين متثاقلين على مشي لا يرى من حوله ولا خلفه.
الكعبة مقصد الناس أجمعين والوجهة الصحن والقبلة غاية، تتدافع إليها الحشود أمواجا كالطود بالأكتاف والمناكب، وعبثا دون جواز المرور أنال المراد. وحدهن النساء ملكن حظ جميع الرجال إذ أُحل لهن الإحرام بالمخيط… والمُحْرِمون بالأفضلية والأسبقية ظفروا بالمقصد وبالغاية.
توشح صحن الكعبة بالبياض ناصعا كطوية المؤمنين الذين يطوفون بالبيت العتيق، من تحت الأقدام مَرْمَرٌ ومن لونه لحاف فوق الأكتاف وعلى الحزام، ودونهم الباقون من الألوف في مصليات المآوي وعلى النواصي وفي الطرقات والباحات وفي كل مكان سُجّدا ركَّعا تصدع حناجرهم بالابتهال وتلهج صدورهم بالبكاء تضرعا وخشية، وعلى رؤسهم حرس بالليل والنهار يؤمنون وقوفهم ولا يأتمرون بغير أوامر الواجب وما يفرضه النظام.
لم أعقد النية على الإحرام بل عزمت أن ألج المسجد وأتعبد بالنظر إلى الكعبة المشرفة على مقربة إليها في الصلاة، دلفت إلى دورة مياه قريبا نزعت الجلباب المغربي الأنيق وما كنت أنتعله بُلْغة فاسية فاقعة ورفعت عن رأسي جامور الطاقية المراكشية بلونها المناسب للزي التقليدي المبهر من بين أزياء العالم في هذه البقعة الطاهرة لأكبر تجمع إنساني بشري ثقافي ديني تعليمي سياحي، وتوشحت بالبياض.
لبست إحرامي ولم أُلَبِّ ولم أعقد النية لا بالإحرام ولا بالعمرة، إنما قصدت ما كان غيري من قبلي تنبه إليه أن يكون جواز مروره لدخول صحن الكعبة والطواف من حولها والسعي بين الصفا والمروة أن يلبس ثوب الإحرام ولا يعقد النية بإحرام.