‏آخر المستجداتلحظة تفكير

خالد عمر بن ققه*: “فى الاستشراق”.. مع ياسين عدنان

تسألنى نفسى دائما وأسألها، وقد يتحول ذلك إلى بوح يوجه لمن أعرف أو لا أعرف: فى أى زمن فكرى نعيش نحن العرب اليوم؟. تتعدّد الإجابات وتتنوع، غير أنها لا تروى ظمأى للفهم، الذى أراه بحزن ـ وليس بيأس وقنوط ـ سيستغرق زمناً طويلا على المستويين الخاص والعام، وقد ينتهى العمر أن يتحقق، والسبب فى ذلك أن المعلومات فى عصرنا تحولت من العمق إلى حديث متقطع، لا جدوى منه فى كثير من الأحيان، ثم إلى همس بكلمات خالية من الحب ـ بما فيه حبّ المعرفة والتأكد من صوابها ـ ووصلت بعد ذلك إلى مشاهدة تطغى عليها الصورة، فترتّب عليها اللّمس السريع، الذى يثقب الذاكرة الفردية، والمجتمعية، والقومية، والإنسانية بشكل عام.

وفى ظل اغتراب عام بالنسبة للفكر من ناحية تقديمه مؤسَّساً على مرجعيَّات، تُوسع من مساحة اليقين لدى عناصر فئات بعينها ـ قليل ما هم ـ نبدو أسْرى المرور العابر لأن جاذبية الصورة، فى تجسيدها وتفصيلها، طاغية على القول الأول للناس جميعهم فى مخاطبة أحدهم للآخر: تحدّث لأعرفك. الحال هذه تتطلب عملا واعيا وهادفا، نُسارع الخطى من خلاله إلى قبس من نور المعرفة، يكون موطنه عالم الإعلام المرئى- بوجه خاص- بهدف التأصيل لقضايانا وفهمها، انطلاقا من استرجاع لحظة نشأتها الأولى، وما تبعها من تدبر وتعاطى معها، وما أسهمت به تغير وتطور عبر قرون أو عقود، ومنها على سبيل المثال «الاستشراق»، حيث الثنائيات المؤدية اليوم إلى سبل الرشاد لمن أراد أن يبتغى إلى المعرفة اليقينية أو شبه اليقينية سبيلا.

وعلى نحو غير جازم، تتبدَّى لنا الثنائيات ـ بتضادها وتناقضاتها وتبايناتها واتفاقاتها ـ دالة، وجديرة بالبحث والدراسة، والأكثر بالاستماع والمشاهدة كونها تستند فى الشرح والتفسير إلى أهل الاختصاص، الذين هم ضالتنا اليوم فى ظل اتساع مساحة اللغو وتراجع فضاء الجد، بل انغلاقه أحيانا على أصحابه، ومن بين الثنائيات المقصودة هنا: الإقبال والإدبار بيننا وبين الغرب فى فضاءات المعرفة، والثوابت والمتغيرات فى الحوار غير المتكافئ بيننا وبين الغرب، وتعاقب الأزمنة فى الطرح الاستعمارى والخروج منه فى منطقتنا. تلك الثنائيات وغيرها، تبدو أكثر وضوحاً فى «عالم الاستشراق» وما فيه من قضايا تاريخية لاتزال قائمة إلى يومنا هذا، وإن تغيرت أساليب التعاطى معها منهجيّاً، الأمر الذى نجده فى برنامج «فى الاستشراق» للكاتب المغربى المبدع «ياسين عدنان»، بحيث يعتبر إضافة نوعية تجمع بين طرح القضايا الكبرى التى تحددت فيها علاقتنا بالآخر الغربى على أساس معْرفى، وبين الإعلام المرئى الجاد.

من ناحية أخرى، فإن هذا البرنامج، كما يقول صاحبه: «يقدم قراءةً نقديةً للاستشراق وروايته لتاريخَ المنطقة، ويبحث فى علم الإسلاميات فى الأكاديميات الغربية وطروحاته حول المنطقة وشعوبها، وإلى أى مدى تأثَّر منهجه بالرؤية النمطية التى قدمها الاستشراق.. وهو عمل جاد وواعٍ لإنشاء مكتبة سمعية بصرية فى موضوع الاستشراق على اليوتيوب». بالعودة إلى حلقات البرنامج نجد أن الكاتب والإعلامى «ياسين عدنان» قد وُفِّق إلى حد بعيد، ليس هذا فقط، بل أحسب أنه فتح المجال أمام الدَّارسين والباحثين ـ والمهتمين عموما ـ فى مجال الاستشراق لتناوله من عدة جوانب، فى عملية إحياء لموروث ثقافى مشترك يؤثر اليوم فينا على مستوى الأمة والدول، وحتى الشعوب، والجماعات، والأفراد.

بالنسبة لى لم أكن على علم بهذا البرنامج قبل أسبوع، مع أننى أعرف صاحبه وكتاباته منذ سنوات، حتى إذا ما أرسل إلىّ هذا الأخير الحلقة الجديدة منه، وهى مع المفكر العراقى الدكتور «محسن جاسم الموسوى»، وجدتنى أعيد مشاهدته عدة مرات لما فيه من علم ومعرفة، وإحاطة شاملة من الذين أوتوا علما فى هذا المجال. أقر هنا أننى حين عُدْت لمشاهدة بعض من حلقات البرنامج غمرتنى سعادة فكرية، ليس فقط لتألق عدنان وضيوفه لجهة الطرح لموضوع الاستشراق، وإنما لكون هذا البرنامج ـ مع غيره من برامج أخرى قليلة جادة ـ يكشف عن دخولنا إلى مرحلة جديدة من الإعلام المرئى، مرحلة غربلة وفرز، لذهاب زبد ما يبث بشكل متواصل جفاء، وبقاء ما قد ينفع الµناس فى عالمنا العربى.

هنا وَجب القول إن برنامج «فى الاستشراق»ـ الذى صورت حلقاته الماضية فى كل من المغرب ومصر ـ هو ما كنا نبْغى نحن أولئك الذين يريدون لأمتهم أن ترتقى، وأن تصبح فاعلة على مستوى الفكر والثقافة فى الحقل العالمى، ولأنه يحقق بعضا مما نصبو إليه، فإنه يصبح لزاما علينا القيام بالآتى: أوّلا: الدعم المادى والأدبى لهذا البرنامج ولغيره من البرامج الأخرى الهادفة. ثانيا: الدعم الإعلامى للبرنامج، من خلال متابعته، والكاتبة عنه، وتوزيعه على نطاق واسع، مثلما هو الأمر للبرنامج والمقاطع الأخرى غير الجادة.

ثالث: تحويل حلقات البرنامج إلى ندوات وورش دراسية فى الجامعات والمراكز البحثية. رابعا: العمل على تكوين جمهور واسع من المشاهدين للبرنامج، بما يحمل ذلك من وفاء المثقفين والأكاديميين لأنفسهم، ولمجالاتهم المعرفية، على غرار ما يفعل الجمهور الرياضى والفنى، وغيرهما. خامسا: العمل على توصيل محتواه إلى صانعى القرار فى دولنا العربية، لأن القضايا التى يطرحها ضمن رؤية الاستشراق تسهم فى توجيه علاقتنا بالآخر على المستوى الرسمى للدول.

*كاتب وصحفي جزائري

‏مقالات ذات صلة

Back to top button