صدر مؤخرا كتابي “أنوار السالكين في تراجم أعلام الصحراء الصالحين” عن مؤسسة فهارس لخدمات الكتاب .
جوهر هذا العمل العلمي هو الحياة الروحية لأعلام الصحراء، وهي مجال جَغرافي استراتيجي متجانس ذو امتداد طبيعي من جنوب المغرب وبلاد شنقيط إلى بلاد السودان وفيه صنهاجة وتافيلالت، و درعة، وفكيك في الصحراء الشرقية. وقد كان هذا المجال الجَغرافي واسعا مفتوحا في القديم، لكنه عرف تقسيمات خرائطية عبر التاريخ، فتغير اسم عدة مناطق، ومنها التي احتُفظ بمسمياتها الأولى. وتحضر أماكن الصحراء في تراجم هذا الكتاب من خلال أسماء المناطق، والمدن، والزوايا، والأنهار، والمدافن، والمساجد، والأودية، والقبائل(كنتة ، تجاكانت ، بارك الله .. ). نحن نتوخى بذلك توضيح جانب هام من الخريطة الدينية المغربية بالصحراء ، وجانب من التاريخ الثقافي والاجتماعي فيها، لأن كثيرا من الرسوم ما تزال قائمة بالرغم من تبدل الأحوال، ودروس الديار، وعفاء الآثار . وقد كانت حركة التصوف ودينامية الصلاح ممتدة، فاقت وتجاوزت التقسيمات المكانية، وكان الولي أو الصالح عابرا للحدود. مستفيدا من جل عوامل الاتصال التي أتاحت التواصل بين أهل هذا المجال، فكانت الصحراء جسرا تواصليا مفتوحا بالغرب الإفريقي، منفتحا أيضا على المشرق بسبب الرِّحلات الدينية والعلمية، مما فعَّل التلاقح المعرفي الفكري بين أفراد الأمة العربية في المشرق و المغرب، وتبادل المعارف، والمؤلفات، و نشاط رحلة الكتب و المكتبات.
وتنتمي التراجم إلى فترات تاريخية متعاقبة متلاحقة متوالية غير منقطعة، عرفت حياة وحركة روحية قوية تُبْرز استمرار الصلاح والطرق الصوفية في الصحراء منذ القرن الرابع إلى الرابع عشر الهجريين.
وقد ظهر لنا أن عددا من أعلام صلحاء الصحراء ومتصوفيها ينتمون إلى طرق بارزة أهمها القادرية، والكنتية، والتيجانية، والشاذلية، والغظفية، والمعينية.. كلها مالكية المذهب، تغترف من السُّنة النبوية، نسج مريدوها تواصلا مستمرا بينهم و مواخاة .
سيجد القارئ في هذه التراجم معطيات تتعلق بتاريخ المغرب العام و الخاص بالصحراء، ولاسيما الجانب الديني، والتاريخ الاجتماعي والثقافي، إذ تضم نصوص التراجم مادة حافلة مُغرية قابلة للدراسة؛ تتناول التحول الثقافي بالمغرب الأقصى والصحراء لقرون، وتوثق أحداثا هامة ترتبط بالصلحاء و شخصيات دبلوماسية أحيانا.
إننا نقدم للأجيال المعاصرة والقادمة نخبة بشرية واسعة غنية ثرية تفوح بالصلاح والعلم ، سعينا إلى تتبع توثيق المعلومات السليمة عنها من المظان التي بحثنا فيها فعلا لإثباتها، وقد عاش الأعلام الحياة نفسها ؛تقوَّتِ الأواصرُ الدموية ، والروحية، والعلمية بينهم، فتشابهت تراجمهم، ومناقبهم، وكراماتهم. وتشابهت سيرهم وسير سائر العلماء والصلحاء في مختلف مناطق المغرب من شماله إلى جنوبه، واتسمت ثقافتهم بالموسوعية التي تقوم أساسا على حفظ المتون الدينية والنصوص الشرعية، وعلى رأسها القرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، ثم المتون الشعرية، واللغوية، وعلوم الدين .. وتقاربت مشاربهم الصوفية في ظل وحدة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية،مما يؤكد وحدة النسق الروحي، ويبرز الثقافة الوحدوية للمغرب.
وقد عرفت الصحراء إشعاعا روحيا وعلميا بين بلدان الغرب الإفريقي و المشرق العربي عبر قرون، إذ انتقل العديد من أولئك الرجال من ربوعهم ، وعبَروا القارات ، مما يعكس العمق الأنترو ثقافي، و يبين قدرتهم على التأقلم مع بيئات متعددة . بصموا خصوصية الثقافة الصحراوية بين الأمم، وأكدوا التجانس الديني والعلمي الحاصل بينهم وبين علماء المشرق ،كما عكسوا في سياقاتهم الاجتماعية الحركية الأنتروبولوجية في ثقافة الغرب الإفريقية ، وقوة المثاقفة والاحتكاك بسبب التأثر والتأثير بين المجالات الجَغرافية.
لقد حرَصَ هؤلاء الصلحاء على استثمار الزمن بشكل قوي، حتى يُعمروه بأعمال القلوب والجوارح النافعة، وعباداتهم ، وقربهم من الله ما حَيَوا. فكانوا الفقهاء، والعلماء، والمربين، والشعراء، والمقرئين القرآن، والمفسرين، واللغويين ، والدبلوماسيين، والمربين، والمدرسين.. وكانوا يريدون بذلك زراعة الخير، والاستعداد للقاء الله، ونيل رضاه في الدنيا والآخرة . فنظرتهم للزمن بعيدة الآفاق عميقة المعنى. نلمسها في التراجم من خلال مشيرات لغوية دالة عليها مثل؛ ” كان مُعَمِّر الأوقات ..” ، و”حريصا على تعْمير وقْته بالعبادات “.. ذاك الحرص من شأنه تقوية شخصيتهم العلمية التي شكلت قدوة لطلَّابهم ومريديهم .
إنهم كانوا حريصين على ترسيخ وجودهم التاريخي في خريطة التأليف العلمي المغربي، والصحراي، والإفريقي، والعربي. لذلك لا نكاد نجد عَلَما غير عالم ، أو دون أثر تأليفي ينقل نظره وفكره ، ودورهم في بناء المواقف في تاريخ المغرب، وحركة الجهاد والمقاومة.. لذلك حرص المدونون على تحلية الأعلام في تراجمهم ـــ التي تتباين حسب مكانتهم ـــ وعرض شيوخهم، و إجازاتهم العلمية، وتدريسهم في المحضرات، و الزوايا، والمجالس، حتى يبينوا استحقاقهم المكانة العلمية التي حظوا بها. وجُل تلك المعطيات تنقل صورة حية عن تاريخ التعليم العتيق بالمنطقة، وأساليبه، ونوع الأسانيد العلمية المعتمدة حينئذ.
ولا يخفى على أي مطَّلع على سير هؤلاء حبهم الكبير للرِّحْلات وتغيير الأماكن، وأهمية الرحلات في بناء الرجال الأفذاذ الصامدين الذين تحملوا مصاعب الصحراء، والحروب، والأزمات، ولم يهابوا الصعوبات أو أثر الغياب عن بلدهم وأهلم. فقد ارتحلوا كثيرا، وكانوا سفراء الصحراء ببلدان أخرى، تركوا بها بصمة علمية أو دينية أو دبلوماسية ، ومنهم من دُوِّنت رحلاته وخاصة الحجازية منها، ومنهم من لم يحصل له ذلك ، وقد كانت الدينية منها ذات مَهام موازية اقتصادية، وروحية، وعلمية، وجَغرافية، ودبلوماسية، وتجارية، وكانت المنفعة الأصلية تجر معها منافع أخرى .
وقد ارتبطت الحياة المعرفية والروحية بحركات إصلاحية كبرى، قادها شيوخ و زعماء روحيون من مثل القطب الشيخ سيدي المختار الكنتي، والقطب الشيخ محمد المصطفى ماء العينين بن مامين. وقد هدفت هذه النزعة الإصلاحية إلى إصلاح السلوك عبر توجيه المريدين والطلاب وتربيتهم، وهذا يفسر طول زمن الحياة العلمية للشيخ، وكثرة تآليفه، وطلابه، وأتباعه، فهو يسير وفق خطط عمل كبرى ، تتسع لأمَّة عبر زمن، لذلك مازالت الأبحاث قائمة لدراسة آثارهم، ومعرفة حركاتهم الإصلاحية، وتأثيرها، وإمكان استمرارها اليوم.
ويعد هذا الإسهام العلمي بمثابة بذرة أولية في التراجم، و إجابة ضمنية عن قدرة الباحث اليوم على التصدي لما يستطيع من ثغرات بحثية تتعلق بالتراث الصحراوي ،وسد الفراغ الكبير في هذا المجال، فنحن تجرأنا بهذا الصنيع على اقتحام صعوبات الترجمة، و نواصل ماقام به علماء السلف من اهتمام بإحياء التراث، من أجل لم شتات بنية ثقافية روحية، تُظهر مدى إمكاناته. ومن شأن هذا الأمر بلورة كيان مغربي موحد من خلال رجال الصحراء، نلامس هذا الكيان المغربي في مختلف أبعاده وتجلياته المجالية بالصحراء، وننظر في مكوناته، ومقوماته، والقيم التي تتحكم فيه، إذ تستوعب التراجم تاريخا عميقا عريقا لا يمكن عزله عن ركب التاريخ الخاص والعام وسير الأبحاث، و تمكن المعطيات والمعلومات التي تقدمها التراجم من إبراز ظواهر، وقضايا، تحتاج أن تثار وتناقش بموضوعية اليوم، كما تُعبر عن التفوق الحضاري، والفكر الديني و العلمي في مراحل تاريخية هامة .
إننا نتوخى، تقديم معجم يتحدث عن التراجم من خلال المصادر ، ويوفر للباحثين مادة علمية ميسرة،تجعل من يستعمله يقف على معطيات غنية ، ويقتنع القارئ أن التراجم مرآة حضارة لفضاء متجانس. وهذا جواب مبطن عن ادعاءات المنكرين لثبات ووحدة الهوية الثقافية المغربية، وأنها كيان موحد بُني عبر قرون، فنحن لا نتحدث عن أزمة تاريخ أو أزمة بناء، بل هي أزمة اعتراف واطلاع على ذخائر ثمينة تفيض بالحياة .
إن هذا الكتاب وبالرغم من أنه يتضمن عددا من الرجالات الذين تنتهي إليهم معظم الأسانيد الصوفية في الصحراء وفي المغرب الأقصى، ويضم أعلاما جَغرافية عديدة أخرى ، فهو مشروع مفتوح، لأننا لم نضمنه إلا ما كان تحت اليد، وبوسائط مرتبطة بالتراث المكتوب، وحتى هذه الوسائط تبقى بالنسبة لنا محدودة في مادة اللغة الواحدة فما أدراك بباقي اللغات التي قالت في الموضوع نفسه. وقد أنشأ مصادر
التراجم الأولى جيل من المدونين الموصولين بالأعلام من ذويهم وطلابهم وأبنائهم، وبالتالي هم شهود عصرهم، عاشوا معهم، وزامنوهم، فعرفوهم عن كثب، فكانت ثمرات رصد سير علمية معرفية تاريخية ، نَبعت من الوسط والنسق والسياق الذي عاشت فيه الأعلام، وكلما فَصَل الزمن بين الباحث والعَلم جهِله الناس ، واستدعى ذلك استمرار البحث فيه وتقديمه إلى أجيال لاحقة.
ومن مقاصد هذا العمل، تثمين البحث في التراجم، وتقويته وتيسيره، للباحثين والمختصين. فالتراجم تؤكد ثراء الذاكرة الثقافية، وترسخ ثقافة الاعتراف بالموارد البشرية، وفاعليتها، وتعكس الخصوصية المعرفية، والدينية، والاجتماعية.ونحن نسجل عناية المغاربة بأعلامهم الصالحة في مختلف المناطق، مما يشي بإمكان إرساء موسوعة وطنية لصلحاء المغرب ترقى إلى لمِّ شملِ تراجم المناطق في هذا البلد الواحد الموحد المتجذر الثقافة بعد جمع شتات تراجم المناطق كل على حدة، وهو مشروع نتوسمه وندعو إليه . فإذا قدرنا اليوم كما قدر الباحثون بالأمس على صناعة التراجم والاستمرار فيها فهذا يؤكد ارتباطنا الوثيق بالتاريخ والانتماء الوطني القوي . إن هذا الإنجاز امتداد طبيعي لأبحاث حديثة تسير في نفس الاتجاه أصبحت الخزانة المغربية تزخر بها ، و قد أسهمنا فيها بكتابين سابقين هما؛ “الكرامة الصوفية بالصحراء المغربية خلال القرنين الهجريين 13ـ 14؛ الشيخ سيدي المختار الكنتي و الشيخ ماء العينين أنموذجا “،وكتاب ” سندس الزهراء في تراجم نساء الصحراء ” وفيهن الصالحات والوليات …
أملنا واسع في أن يجد القارئ المهتم بتراث الصحراء شيئا مما يفيده، وأن يستنهض مزيدا من الهمم للاشتغال العلمي الجاد به.