توطئة عامة :
كتاب : ( حديث المفتي ) هو مرآة صادقة وواضحة على حياة مؤلفه الأستاذ أحمد بن سودة مستشار الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله ، يحكي تجربة حياة مثقف وإعلامي مكافح ، مليئة بالمواقف والمعارك وقضايا السياسة الوطنية والدولية .
كتاب يعود بنا إلى طرح إشكالية علاقة الثقافة بالإعلام التي تراجعت مضامينها في وقتنا الحاضر ، وأضحى أغلبية الإعلاميين مسايرين ، وفاقدين لميزة التميز الثقافي ، ومن ذوي المباشرة والركون إلى التقليد والتشابه الممل ، والسير على النمط المتكرر لما يراد بالإعلام ، وتحول أكثريتهم إلى ما يشبه النجوم ولكن من ورق وبصلاحيات محددة في الزمان والمكان ، سرعان ما تغيب وتتجاوز وتنسى ، أما الهم الثقافي الذي يخلد أصحابه فقد اختفى من أعمالهم الإعلامية للأسف الشديد .
من الشروط الأولية لمعنى الإعلامي المثقف أن يمتلك هويته الواضحة في معالجة أحداث عصره ، وأن يكتسب تجربة منفتحة ومتجددة ، تخول له المشاركة في إبداء الرأي ، وإظهار المواقف في مختلف الأحداث الرائجة ، ثم بعد ذلك سيكتسب مع الأيام معنى الخلود والتأثير بالمفهوم الثقافي ، وأن تتحول أفعاله الإعلامية إلى شهادات ووثائق يُعتَدُّ بها في مجال البحث والدراسة والتقييم .
وسنرى مثالا حيا للإعلامي المثقف من خلال كتاب : ( حديث المفتي ) وقد يظن القارئ أن الكتاب المذكور له صلة بمحتويات دينية كما توحي بذلك لفظتا العنوان غير أن ذلك غير صحيح ، فالكتاب عبارة عن مقالات افتتاحية صحفية ، تسيدت على صدر صحيفة : ( الرأي العام ) لسان حزب الشورى والاستقلال طيلة عشرة أعوام ( 1947 – 1957 ) .
و في البدء سأذكر ببعض مسارات حياة المُؤَلِّف أحمد بن سودة رحمه الله إبان فترة الاستعمار :
- الكاتب عاش ما بين سنة : ( 1920 – 2008 ) .
- انضم إلى كتلة العمل الوطني سنة : 1933م ، ثم التحق بالحركة القومية التي كان يرأسها محمد حسن الوزاني الأمين العام لحزب الدستور الديمقراطي آنذاك .
- تعرض للسجن والنفي بسبب أفكاره السياسية ، ففي سنة 1937 قضى شهرا في سجن مدينة فاس ، وفي سنة : 1938 قضى ثلاثة أشهر في سجن قرية ” أبا احمد ” وحكم عليه بسنتين سجنا ، والإبعاد عن مدينة فاس لمدة عشرين عاما سنة 1940 .
- كان من جملة المسيرين الذين طالبوا بالاستقلال سنة : 1944 فأودع سجن ” العاذر ” بناحية مدينة الجديدة لمدة عام ونصف .
الحلقة الثالثة : نماذج عامة لبعض القضايا التي عولجت في كتاب : ” حديث المفتي “
من المفيد الضروري للقارئ الكريم أن أقدم له هذه النظرة العامة عن الكتاب قبل أن نلج للتفاصيل في الحلقات المستقبلية بحول الله تعالى ، لأن مواضيع الكتاب مشتة ، ولا تنتظم في فكرة ، أو محور معرفي محدد ، فطبيعة الأحداث المتتالية في مغرب وعالم الحقبة الممتدة على طول عشر سنوات ( 1947 – 1957 ) وكذلك المعالجة الإعلامية التي تقتضي التتبع ، وتقديم المحتويات الساخنة حسب ظروفها ساهمت في هذا التنوع الكبير الذي يلاحظ على مضامين الكتاب ، ويمكن أن ندلي ببعض العناوين المسعفة على الفهم الأولي لطبيعة الكتاب .
إن أغلب المقالات قد ذهبت إلى مقارعة آفة الحماية والاستعمار الجاثم على أرض المغرب ولكن هذا لم يمنع من أن تتعدد النظرات والرؤى ما بين مفاهيم المحلي والوطني والدولي ، وما بين المركز والفرع من ناحية حلقات الفعل المتسلسة ، فالسياقات المتحكمة في محتويات الكتاب كانت متنوعة ومتشابكة ، ومتضاربة وفي بعض الأحيان متناقضة ، والاستعمار البغيض كان يعرف أن خروجه من البلاد آت ، ولا مفر منه ، ولهذا عمل بكل قواه وخبثه على ضمان وجوده على مستوى الأفكار والأفعال ، والغريب هو وقوع حلحلة كبيرة في علاقات الفئات المجتمعية المختلفة ، وكان الأستاذ أحمد بنسودة ذكيا حين تعرض في مقالة نشرت له يوم 17 يونيو 1949م ، ودارت أحداثها حول قرار إحداث كازينو مراكش ، وتم الحوار فيها بين العم وابن أخيه ، وكل هذا رمز لمدى فداحة أفعال الاستعمار الخبيثة ، ولمدى التفكك الفكري الذي وصلت إليه الأسرة والمجتمع المغربيين ، جاء في : ( ص : 92 – 93 ) وبعنوان : ( مرحى بكازينو مراكش ) : ( دخل علي ابن أخي هذا الصباح ، وهو يدخن ووجهه كالمصباح ، وبدت عليه علامة الانشراح وهو يقرأ جريدة الصباح ، ثم كلمني بالجد لا بالمزاح ، وقال يا ” عمي ” المداح ” لقد صدر من الوزارة قرار ، حلل القمار الذي شيدت له الديار ، وستنفق عليه مراكش الفرنك والدولار ، وسيؤمها السياح والزوار ، الله يا عمي المهزار ، الآن زالت الأكدار ، وأحل لنا الخمر والقمار ، وفرح ابن أخي وطار ، وغنى كالهزار ، وأصبح الدخان في فمه كالمزمار …..) .
هذا نموذج أولي ويمكن أن نطوره على ضوء ما جاء في كتاب : ( حديث المفتي ) إلى ملامسة الأفكار الجديدة الدخيلة على المجتمع آنذاك ، وكيف كان وقعها على الجميع ، ولاسيما الفئات المثقفة منه ، يقول في مقالة : ( الجنس اللطيف يطالب بالمساواة في الوظيف ) التي نشرت في : 16 شتنبر 1949م ( ص : 124 ) : ( سادتي القراء سينسحب المفتي الظريف ، ويدع الكلمة لعبقرية من الجنس اللطيف ، فاللهم احفظنا بحفظك يا لطيف : سيدي المفتي المحبوب الذي جذب بخاصية الأسلوب جميع العواطف والقلوب ، لقد رأيتك يا سيدي مقصرا في حق النساء ، لا تعيرهن نقدا ولا ثناء ، كأنك فيما يجري جاهل ، وعما يقع في الدنيا غافل ، أشغلك البنون على البنات ، والفتيان على الفتيات ، والسادة عن السيدات ، مع أننا أصبحنا على قدم المساواة ، فلا معنى للمحاباة…..) .
وبالرغم من أنني في مرحلة الإدلاء بهذه النماذج أحاول أن أبعد نفسي عن التحليل والتعليق ليقف القارئ الكريم بينته الذاتية على المحتويات المختلفة إلا أنني أريد أن أنبه إلى بعض مزايا الكتابة الصحفية آنذاك على مستويات عديدة : منها على وجه الخصوص قوالب التعبير المبتكرة لمسايرة الأفكار المطروحة ، وتقديمها في حلة توحي بالمباشر وغير المباشر عن المكنون المراد ، ومنها مبدأ الإنصاف في الكتابة على ضوء الحركة الواقعية وعواملها الإيجابية والسلبية ، ومنها – وهو المهم عندي – النهوض بمهمة الإصلاح داخل المجتمع ، واعتبار ذلك من الواجبات الكأداء التي تطوق عنق الإعلامي المثقف والغيور بصفة عامة .
ومن النماذج الدالة على هذا المنحى ولكن في إطار العلاقات السائدة بين أفراد المجتمع من ناحية إبداء النصح ، والتصريح بالمطلوب من أي تكليف يناط بالأشخاص ، يقول ابن سودة مخاطبا صديقا له عين وزيرا للأوقاف ضمن مقالة بعنوان : ( مساجد كالأقزام.. وكوميساريات كالجواري الأعلام ص : 160 / 162 وبتاريخ 10 مارس 1950م ) : ( صاحب المعالي وزير الأوقاف ، سأخاطبك اليوم بغاية الصراحة والإنصاف ، لقد توليت الوظيف فهنأك المخلصون ، وتهافت عليك المستوظفون ، وتسلل إليك المغرضون ، وجلست على الكرسي فجاءك المنافقون ، أما المفتي فلن يهنئك بمنصب توليته ، ولن يزورك للقب حملته ، ولكن كعارف بالمهنة ، وعليم بالسكة يشفق عليك من الأمانة وثقلها ، والوزارة وعبثها ، لن أخبرك عن أحباس المسلمين ، ولن أحدثك بحالة الموظفين الدينيين ، فيكفي المؤذنون أنهم يبعثون أطول الناس أعناقا ، ويكفي الأئمة أن وجوههم ستشرق يوم القيامة إشراقا ، ويكفي الخطباء أن أجسامهم ستبرق في الحشر إبراقا ، فمن شبع فليقل الحمد الله ، ومن جاع فليصبر لوجه الله ، ومن تألم فليقل لا حول ولا قوة إلا بالله……) .
هكذا ديدن الأستاذ بنسودة في التعرض للأحداث التي يعج بها المجتمع المغربي إبان كتابة هذه المقالات ، وكما قلت فهي متناسلة ومتعددة ، ولها خلفيات متنوعة ، وغايات متضاربة ومع ذلك ظل كاتبنا يزنها بميزان المبدأ المستفاد من أصالة المغرب في دينه ولغته ومواقفه ، فلا يمكن أن تقف مطالبتنا عند حدود الاستقلال دون أن ننتبه إلى الترسبات والظواهر الجديدة المزعجة للمجتمع في بنائه وروحه وتماسكه ، وهذه هي الرسالة الحقة لكل عمل ثقافي وإعلامي مشرف .
ونكتفي بما قدمنا حتى لا يطول المقال ، وسنعمل في الحلقات القادمة إن شاء الله على تناول القضايا المعالجة بتحديد وتفصيل أكبر ، وعلى إيجاد روابط تجمع شتات الكتاب في عناوين متجانسة ومتناسقة .
( يتبع .. )