لا ضير في إعادة التأكيد، أن الحديث في أمر يتعلق “بالمعركة” اثناء حدوثها مسألة غير مستحبة، وتنطوي على الكثير من المغامرة والمخاطرة، لكن “صخب” النقاش حول الضحايا الفلسطينيين في غزة بالأساس، ثم في الضفة الغربية، جعل الإضاءة على بعض جوانب المسألة أمراً ضرورياً، إذ تجاوز الأمر اختلاف الآراء في مسألة “وطنية”، إلى ما قد يؤثر في الحالة المعنوية الفلسطينية برمتها، وكذلك تلك المتعلقة بحلفائها. هذه الحالة التي ينبغي أن يحرص عليها الجميع، خاصة وأن الحرب ما زالت في أوجها، والمساس بالمعنويات سيلقي بظلاله على النتيجة النهائية لصراع محتدم منذ أكثر من قرن، عندئذ لن يعيد “الحريصون” على الضحايا (وأنا لا أشك أبداً في نواياهم الحسنة في ذلك) أعزاءهم، وستذهب القضية التي ضحى أولئك من أجلها هباء أيضاً.
يُراد للنقاش الدائر بين النخب السياسية والثقافية الفلسطينية حول الحرب على غزة، خاصة في الموضوع المتعلق بضحايا تلك الحرب، أن يَظهر أنه بين أولئك الحريصين على الإنسان والدم الفلسطيني، الذين يتصفون بالمسؤولية والحكمة وأصحاب الضمير والمعنيين بالضحايا من جانب، وبين “المستهترين”، و”المتهورين”، و”العبثيين”، و”المستخفين” بالضحايا.
لكن الأمر بالتأكيد ليس كذلك، وهو لا يتعلق بموقف أي من الطرفين من الضحايا ومن قيمتهم ومن الحرص على حياة الفلسطينيين، لكنه بالأساس اختلاف في الموقف من فلسطين وقضيتها، ومن إسرائيل ومشروعها، وهذا ما سأحاول شرحه هنا، لكن قبل ذلك لا بد من ملاحظة رأيت من الضروري قولها بعد تردد، وهي أن كثيراً من أولئك الذين يبدون حرصهم على الدم الفلسطيني وعلى الضحايا لم يكونوا كذلك قبل الحرب على غزة. لم يتحدث أحد منهم عن ثمن “المنجزات” (الامتيازات) التي “حققها” الفلسطينيون في “انعطافتهم” السياسية التي تمثلت في “جنوحهم” للسلم، وكأن هذه “الإنجازات” كانت نتيجة عملية “بيضاء” لم يُخدش في الطريق إليها أي من الفلسطينيين (وغير الفلسطينيين). من يستمع لهؤلاء يظن أنه قبل الحرب على غزة لم يكن هناك ضحايا أو شهداء فلسطينيون، ولم يكن هناك “إجرام” إسرائيلي.
بعض بديهيات فلسطين
ما دمنا نتحدث عن الضحايا الفلسطينيين، فلا بأس من العودة إلى بديهيات القضية الفلسطينية، والمشروع الوطني الفلسطيني الذي يتلخص ببساطة وبوضوح، في سعي الفلسطيني لوجوده الحر في فلسطين الحرة. هذا هو المشروع الوطني الفلسطيني الذي لا يختلف عن أي مشروع وطني لأي شعب في العالم، وهو أن يعيش الفلسطيني حراً في وطنه الحر.
في هذه الحالة، أي عندما نتحدث عن المشروع الوطني، فإن شرط الوجود أهم من الوجود ذاته، إذ أن ذلك الشرط هو الذي يجعله مشروعاً وطنياً وليس الوجود المجرد. فالفلسطيني الحر وفلسطين الحرة هما اللذان يحققان المشروع الوطني الفلسطيني، وليس الوجود الفزيقي الفردي وحتى الجماعي للفلسطينيين كيفما اتفق، وأيا كان شكل ذلك الوجود. في هذا الإطار يمكن تعريف “الشهيد” و”البطل” و”الفدائي”، حيث يَعتبر هؤلاء شرط وجودهم أكثر أهمية من وجودهم، وليس كما يحاول البعض وصفهم كيائسين وكارهين للحياة، وساعين “للملذات” في عالم آخر.
دعونا نتفق إذن، أن النقاش حول الضحايا لا يتعلق بقيمتهم العالية عند البعض، والاستخفاف بهم عند البعض الآخر، بل هو نقاش حول شكل الوجود (الفلسطيني)، وحول أهمية شرط الوجود للوجود. اتفق شخصياً مع من يرى أن الوجود ضروري لتحقيق شروطه، وأعتبر أن من حق أي شخص إن أراد، أن يعتبر وجوده (حياته) وحياة الآخرين أهم من أي شيء في العالم، لكن أن يعتبر أن ذلك هو المشروع الوطني التحرري الفلسطيني فهذا شيء آخر تماماً. فالمشروع الوطني كما قلنا هو تحقيق شروط الوجود، والاكتفاء بالوجود فقط دون شروطه قد يكون أي شيء لكن ليس المشروع الوطني الفلسطيني.
ربما يوضح لنا ذلك النقاش ما الذي جعل اتفاق اوسلو اشكالياً. فالذي جرى في هذا الاتفاق، أن الفلسطينيين وهم في خضم البحث عن “وجودهم” أضاعوا شروطه، فتجسد شكل أكثر كثافة من الوجود، لكنه أكثر بعداً وأكثر تهميشاً لتلك الشروط، حرية الانسان وحرية الوطن، فكانت النتيجة شيئاً يمكن النقاش فيما إذا كان جيداً أم عكس ذلك، لكنه بالتأكيد خارج المعنى وخارج سياق المشروع الوطني الفلسطيني كما عرفناه، وهو ليس أكثر من مقايضة بين الوجود وشروطه.
قول في التضحية والضحايا
إذا اتفقنا أن مجرد الوجود ليس كافياً في المشروع الوطني الفلسطيني، بل ينبغي أن يكون مشروطاً بالحرية للإنسان وللوطن، فإن تحقيق ذلك، خاصة مع محتل كالذي نواجه، يقتضي العمل (النضال) من أجل تحقيقه. هذا يعني بدوره احتمالاً لسقوط ضحايا، واستعداداً للتضحية، فاحتمال فقدان الوجود (الحياة) أثناء السعي لتحقيق شرطه أمر وارد تماماً. هذا يجعل القبول بالتضحية باعتبارها أمراً موضوعياً لإنجاز المشروع الوطني شيئاً طبيعياً، وليس “استهانة” بحياة الناس كما يراها البعض. المهم التأكد هنا إن كانت هذه الضحايا قد سقطت في سياق المشروع الوطني أم في سياق آخر.
إذن، فالمشروع الوطني يتطلب التضحيات، في هذه الحالة ربما من الأجدر للذي يبدي “حرصاً” على ضرورة عدم وقوع الضحايا، ويرفض وجود ضحايا من الأساس، أن يكون سؤاله فيما إذا كانت فلسطين ومشروعها الوطني تستحق هذه التضحيات. في هذه الحالة ينقسم “المتناقشون” إلى من يرى أن فلسطين تستحق ليكون مع المشروع الوطني، أو أنها لا تستحق ليكون في مكان آخر. هذا تقسيم موضوعي لا علاقة له بتاتا بالتخوين أو عدمه، فالذي يعتبر أن متطلبات تحقيق شرط الوجود (التضحية والضحايا) أهم من ذلك الشرط (الحرية) هو بكل وضوح يعتبر أن المشروع الوطني لا يستحق التضحية من أجله (هذا إن كان يُقر بوجود مشروع وطني من الأساس)… وهو حر في اعتقاده، شرط أن لا يُنَظر أن هذا هو المشروع الوطني بذاته.
فلسطين برأي المتبنين لمشروعها، قضية شعب يسعى للتحرر، وقضية إقليم (شرق) يطمح للاستقلال والخلاص من التبعية، وعالم يريد التخلص من الظلم. هي بذلك تستحق التضحيات، ومن حق من لا يراها كذلك أن لا يراها، والأمر ليس له علاقة بالموقف من الضحايا، فهم يعزٌون على من يستعد لتقديمهم بنفس المستوى الذي يعزون فيه على من يرفض ذلك، إن لم يكن أكثر.
وفي هذا الإطار، هناك من الفلسطينيين من يرى في الحرب على غزة (والضفة) الآن، أنها حرب على فلسطين وقضيتها ومستقبلها، ومعركة حول الجوهر والأساس وفي الإتجاه الصحيح، لذلك يصر على ضرورة النصر فيها، ويرى في ضحاياها “شهداء على طريق فلسطين”، لا يُقدرون بثمن، وبالتالي ينبغي أن يكون العائد من هذه التضحيات غالياً وعزيزاً أيضاً. أما من يرى أن هذه الحرب هي شيء آخر، كأن تكون “مغامرة” غير محسوبة، أو “مؤامرة”، فمن “حقه” أن يرى أن الضحايا قد ذهبوا “هدراً”.
وفي هذا السياق أيضاُ، هناك من يرى في الحرب على غزة فصلاً “حتمياً” من فصول الصراع بين الفلسطينيين والحركة الصهيونية وإسرائيل، لذلك يعتبر التضحية ليست فقط موضوعية بل وفي سياقها. لكن هناك من يعتبر تلك الحرب حدثاً معزولاً خارج السياق، وكان بالإمكان تلافيها لولا “التهور” الذي قامت به “القيادة” في غزة. هذا يرى التضحية أمراً كان بالإمكان تجنبه، وكان ينبغي ذلك. بالطبع من حق من يعتقد بذلك أن يفعل، لكنه موقف من الصراع أكثر منه موقف من الضحايا.
التضحية في السياق الفلسطيني
قبل الحديث عن تاريخ “التضحية” وسياقاتها في التاريخ الفلسطيني المعاصر، نرى من الضروري التأكيد أن المستعمِر (إسرائيل والمشروع الصهيوني والإمبريالية)، هو المسؤول الأول عن وقوع الضحايا من الفلسطينيين ومن وقف إلى جانبهم. هذا ينطبق على الفلسطينيين، كما انطبق قبلهم على ضحايا التحرر الوطني في كل أنحاء العالم، من فيتنام إلى الجزائر إلى كوبا وغيرها. لم نسمع أحداُ حمّل عمر المختار المسؤولية عن ضحايا المقاومة الليبية للمستعمر الإيطالي، أو هوشي منّه عن ضحايا الحرب الفيتنامية، وهذا يصح على كل المقاومين وكل المستعمِرين.
في الحالة الفلسطينية الآن الأمر أشد وضوحاً؛ فحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين واضحة أمام الجميع، وهي ليست إبادة للبشر أطفالاً ونساءً ورجالاً، أطباء واستاذة وصحفيين فقط، بل إبادة لكل مظاهر الحياة، والمقاومة الفلسطينية حالة موضوعية تتصدى لأبشع استعمار، وأغرب استعمار، وأكثرها توحشًا.
ورغم ذلك، فالفلسطينيون مدعوون لدراسة تاريخ تضحيتهم وضحاياهم (غريب أن ذلك لم يحدث حتى الآن)، ليس من أجل “تفضيل” ضحايا مرحلة على ضحايا مرحلة أخرى، فكل الضحايا سواسية في قيمتهم عند شعبهم وعند أعزائهم، لكن من أجل معرفة السياق الذي حدثت فيه تلك التضحية، ودراسة مخرجاتها وما ترتب عليها، وهو الذي يعني تقييم “الثورة” الفلسطينية المعاصرة ككل.
التضحية صعبة ومؤلمة، والضحايا متساوون، لكن سياق التضحية مختلف، وكذلك معناها. فضحايا هذه الحرب الدائرة الآن هم ضحايا مباشرون لحرب على فلسطين ومستقبلها، هم ضحايا منسجمون مع فلسطين وقضيتها وتراثها وروايتها وأغانيها وشعرها ونثرها. لم يكونوا ضحايا مُضلَلين، ولا ضحايا انقلاب أو انشقاق أو انتصار لقائد ضد آخر. هؤلاء قضوا في المكان الصحيح، لم يموتوا في مكان “جدلي”، لا في الرقة ولا في أفغانستان. لم يموتوا في حرب “ملتبَسة”، أو في سياق “تنافس” بين التنظيمات، ولا لمنافسة نظام “شقيق”، أو لكسب مقعد إضافي في مؤسسة “شرعية”. هؤلاء ضحايا “معركة” يتقرر في ضوء نتائجها مصير فلسطين، وخروج الأمة من التاريخ أو عودتها إليه.
على هؤلاء، وعلى كل ضحايا فلسطين وشهدائها، تُذرف الدموع، وتنحني القامات، ولهؤلاء حق على شعبهم أن يخلدهم بكل الوسائل، وأن يكرسهم في الوعي وفي الذاكرة، فبهم تبقى فلسطين وتنتصر.
فالفلسطينيون مدعوون لدراسة تاريخ تضحيتهم وضحاياهم، ليس من أجل “تفضيل” ضحايا مرحلة على ضحايا مرحلة أخرى، فكل الضحايا سواسية في قيمتهم عند شعبهم وعند أعزائهم، لكن من أجل معرفة السياق الذي حدثت فيه تلك التضحية، ودراسة مخرجاتها وما ترتب عليها، وهو الذي يعني تقييم “الثورة” الفلسطينية المعاصرة ككل.