منذ اليوم الأول لإستماع محكمة العدل الدولية لمرافعة جنوب افريقيا في الدعوى التي رفعتها على اسرائيل، متهمة إياها بارتكاب الابادة الجماعية في غزة، واليوم التالي الذي تمت فيه مرافعة اسرائيل كطرف مدعى عليه، بدت الحقيقة واضحة، وتحقق الجزء الأكبر من الهدف، رغم الأهمية الاستثنائية لوصول المحكمة الى الادانة الكاملة للمدعى عليه.
فما ظهر حتى الآن كان فوزا لفلسطين ودولة جنوب افريقيا، مقابل ذلك “سقط” كثيرون؛ اسرائيل ومن يقف معها، امريكا وبعض الدول الاوروبية، وقبل ذلك أو بعده (لا يهم)، سقط النظام العربي الذي بدى وأنه “أصر” على أن يكون ذلك السقوط مدويا ومتعدد الجوانب، وكأنه أراد أن لا يترك أي مجال لأحد، وخاصة للشعوب العربية، لبعض الشك في الأمر. أما المرشح للسقوط (أو النجاح)، فهو المحكمة نفسها، ونظام العدالة الدولي، وهو الذي سيظهر مع تبيان موقف المحكمة من تلك الدعوى.
بالنسبة لفلسطين، فازت لأنها ظهرت أن الحق الى جانبها بكل ذلك الوضوح. فلسطين المظلومة، التي تألمت لسنين طوال، ليس فقط من وقوع الظلم عليها، بل أيضا وربما بصورة أكثر إيلاما، من “تنكر” العالم، أو في أحسن الأحوال، عدم تفهم العالم لتلك المظلومية، رغم وضوحها الذي يمكن إدراكه بكل الحواس.
بعد أربع ساعات من أداء رائع لممثلي جنوب افريقيا في لاهاي، بدت فلسطين في منتهى السعادة، رغم هول ما يجري على الأرض، فهي أخيرا “تدق جدران العالم بقوة”. فازت فلسطين، بل وفاز معها الحق نفسه، لأنه ثبت أن ليس بإمكان أحد مهما بلغت قوته، أن يخفيه أو يتجاوزه مهما طال الوقت.
ومما زاد في النجاح الفلسطيني وضوحا وتألقا، أن صانع هذا النجاح هو دولة جنوب افريقيا بالذات، الدولة القوية بأخلاقها، والتي تشارك فلسطين التجربة والمعاناة لا أكثر، وتنتصر لفلسطين من باب انتصارها للحق والعدالة، وليس من باب الاصطفاف السياسي مع طرف دون آخر، أو تحقيقا لمصالح وانتظارا لمكاسب كما تفعل الدول “الكبرى”.
أما جنوب افريقيا فقد نجحت شكلا ومضمونا في تبنيها لتلك القضية، وفي أدائها المثير للإعجاب في لاهاي في ذلك اليوم، الحادي عشر من يناير. أدى وفدها دوره بشكل مهني واحترافي حيث عبر جيدا عن القضية المطروحة، وأظهر أنه ملما ببعدها التاريخي والاستراتيجي. وبموازاة ذلك، نجح في إظهار أنه يمثل دولة ليست عادية بتاتا، فبدى واضحا أنه خلف كل كلمة في مرافعته، وخلف كل تصريح لأعضاء ذلك الوفد في ذلك اليوم، كانت دولة مستندة الى تاريخها الإنساني والنضالي، وكان شعب استمر بالانسجام مع تضحياته ومع المخزون الهائل من النبل الذي “خزنه” (تيمنا باليمن).
لم يبد على جنوب افريقيا وهي تحمل لواء الانتصار الأخلاقي للحق الفلسطيني، أنها ترد “الجميل” لعبد الناصر وياسر عرفات اللذين وقفا الى جانب نضالها ضد النظام العنصري – وإن كنت أجزم أنها لم تنس ذلك -، إنما كانت تقف مع ذاتها ومع ضميرها كدولة اتخذت من الحق والعدل والأخلاق منهجا لها، وتجلى ذلك في موقفها من فلسطين التي تدرك مع كل أحرار العالم، أن قضيتها تمثل تجسيدا لهذه القيم، ومعيارا للانحياز للإنسانية.
لم تفرق جنوب افريقيا بين الضحايا، ولم تهتم بمن هو القاتل، إنما أعلنت اصطفافها الى جانب أية ضحية، وضد كل قاتل. وهي تدرك ماذا يعني وقوفها ضد اسرائيل في هذه الحالة، لكنها مضت دون تردد.
ادركت جنوب افريقيا من خلال التجربة، أن العنصرية هي الداء الأول للبشرية، إذ لا فائدة لأي قيم وأي نظام أخلاقي أو سياسي، ولا معنى للديموقراطية وحقوق الانسان، وأية منظومة فكرية، وأي دين أو معتقد، اذا لم تكن مبنية على قاعدة أن كل البشر متساوين، بغض النظر عن اختلافاتهم العرقية والجنسية والفكرية وغيرها.
وجنوب افريقيا بذلك الوعي، وتلك التجربة، عرفت قيمة الاستمرار في النضال ضد العنصرية بكل اشكالها، حتى بعد تحررها وانعتاقها منها. وأدركت عمق الحق الكامن في قضية فلسطين فقررت أن تحررها هي لا يكتمل إلا بتحرر فلسطين كما قال زعيمها مانديلا. هذا هو الموقف الحقيقي لشعب كان ضحية العنصرية فتحرر منها ومضى في النضال ضدها حتى بعد تحرره. هذا ما يميز الإنسان… هذا ما يفرق الضحية الحقيقية عن “الضحية” المصطنعة التي اتخذت من “قاتلها” مثالا لها ثم تفوقت عليه.
في محكمة لاهاي، وقفت اسرائيل مبهوتة ليس فقط من الحقائق التي استطاعت جنوب افريقيا ايصالها الى العالم، و”نجحت” هي في اخفائها عن الكثيرين لعقود، بل وكذلك مما ترتب على فقدانها لعقلها وانكشافها الكامل في ذلك اليوم الذي تلا السادس وسبق الثامن من ذلك الشهر الذي “شهده” أحرار العالم.
وإلى جانب اسرائيل، تفاجأ الغرب “المتشبث” بها بما حدث في لاهاي. انه على ما يبدو لم يُقدر أن الأمور ستأخذ هذا البعد في إحراج اسرائيل، وكل من يقف معها. كان ذلك انكشافاً أخلاقياً لإسرائيل وللغرب أيضا خاصة امريكا، التي وقفت ضد وقف إطلاق النار وحيدة في العالم، وهي التي يفترض أنها القوة الأعظم، والمسؤولة عن السلام والأمن الدوليين.
بدى رفض وقف إطلاق النار، والموقف الأمريكي والغربي مما يجري في غزة، وفي محكمة لاهاي، ذروة العنصرية التي تتقاسمها مع إسرائيل، التي تشكل ليس فقط الموقف الأخلاقي للغرب وموقفه من حقوق الإنسان، بل من تحديد من هو الإنسان ومن لا ينطبق عليه هذا المفهوم من بين شعوب الأرض. إنهم في حقيقة الأمر لا يعتبرون الشعب في غزة والشعب الفلسطيني بأكمله وكثيرا من شعوب العالم بشرا من الأساس.
أما الأمر الأكثر وضوحا وإيلاما الذي كشفته المواقف في لاهاي، فهو غياب النظام العربي، الذي كانت تلك القضية فرصته الأخيرة ليظهر أنه ما زال على قيد الحياة. في لاهاي مات النظام العربي تماما، ويبدو أن على شعوب المنطقة أن تبحث عن “نظام” جديد لها إن أرادت أن تحافظ على نفسها كمجموعة. ربما هذا هو أحد الأسباب التي جعلتني أتحدث عن الشرق عند الحديث عن منطقتنا وليس أية تسمية أخرى.
في هذا الوقت الذي تسعى فيه قوى عديدة لإيجاد نظام عالمي اكثر عدلا وأكثر استقرارا، حيث ثبت أن الأمم المتحدة، بشكلها الحالي على الأقل، قد فشلت في تحقيقه لأسباب كثيرة أهمها غياب البعد الأخلاقي في منظومتها، ذلك البعد الذي يبدو أنه سيبقى غائبا ما دامت دولا قائمة على العنصرية هي الأكثر نفوذا فيه.
لقد ثبت أنه لا يمكن للنظام الدولي القائم الآن بزعامة الغرب، أن يستمر بشكله الحالي لأنه عنصري، ولا ينظر للناس كمتساوين، وهو ما دام عنصريا فإن من حق العالم أن يشك في قيمه حتى تلك التي تبدو جيدة، أو من حق العالم أن يعتقد أنه حتى بامتلاكه لتلك القيم، فإن آخر شيء يفكر فيه هو إيصال تلك القيم الى الشعوب الأخرى، فهي بالنسبة له ليست اكثر من أدوات للهيمنة وفرض الإرادة.
يركز الغرب في “كل” طروحاته السياسية و”الاخلاقية” على موضوع السلام، الذي بات واضحا أنه يوظفه أساسا في مواجهة العدل. ويُسوق نفسه للعالم على أنه حام للسلام العالمي، ذلك الذي لم يتحقق نهائيا منذ أن تزعم النظام الدولي الحالي، وهو سيبقى كذلك ما دام عنصريا، فالعدل والعنصرية لا يلتقيان، ولا حل لمشاكل البشرية إلا بتحقيق العدل، ولن يتحقق ذلك إلا بالقضاء على العنصرية أو إقصائها كنهج لمن يقود العالم.
لذلك، لا مفر من مواجهة العنصرية إن أراد العالم أن يكون إنسانيا. هذا يفترض من شعوب العالم ونخبه “المحترمة” ودوله “المعقولة” أن تسعى لأن تكون دولة جنوب افريقيا في قلب النظام الدولي المطلوب؛ فهي دولة يمكنها أن تمثل افريقيا سياسيا لكنها تمثل كل شرفاء العالم اخلاقيا، كما تمثل الحق والعدل قيميا. وهي بمجرد وجودها في مكان مرموق في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، مؤشر على جدية الساعين لنظام عالمي مختلف، ودليل على أن العالم قد ضاق ذرعا من العنصرية وممارسيها، وإعلان واضح أن الإنسان كإنسان قد أصبح محور اهتمام العالم.
من واجب شعوب العالم أن تنصب دولة جنوب افريقيا زعيمة أخلاقية له، فهي تستحق ذلك بجدارة، ومن حق تلك الشعوب أن ترى دولا قائدة غير تلك التي رأتها حتى الآن. قد لا يعطي ذلك ثماره سريعا، لكنه بالتأكيد سيشكل إحراجا “للوحوش” التي لا تغادر شاشات التلفاز هذه الأيام.
