لقد استغربت في الحقيقة كثيرا لقرار البرلمان الأوروبي الأخير (19 يناير 2023) حول حرية الصحافة والتعبير في المغرب، حيث صوت 365 عضوا في البرلمان الأوروبي ضد وضعية الصحافة “المتدهورة” خلال العقد الأخير في المغرب. ومرد هذا الاستغراب إلى أن هذا القرار جاء في ظرفية دبلوماسية وجيو- سياسية دقيقة تشهد تناقضات وتشنجات وتصفية حسابات أمنية وسياسية واقتصادية على مختلف الأصعدة، وبين شتى الأطراف الأوروبية والمغاربية والإفريقية والعربية. حتى إنه ليكاد يبدو لمتابع مجريات هذه النازلة وكأن هذا القرار تمت حياكته في كواليس السياسة أو دُبر بليل! أو على الأقل أن الأسباب التي أدت إلى نتائجه “غير المتوقعة” تم إعدادها منذ زمان بعيد على نار هادئة لكسر شوكة المغرب، الذي لم يعد كما في الماضي شريكا خاضعا وخانعا لأوروبا الآمرة والناهية، بل أصبح شريكا ندّا ومشاكسا وجريئا.
وهناك من قد يشكك في هذا الرأي المُستغرِب بدعوى أن حقوق الصحافة والتعبير، أو بالأحرى بعضها مهضوم إلى حد ما في المغرب، وهكذا لا يمكن حجب الشمس بالغربال، كما اعتدنا أن نردد أمام كل من ينكر الحقيقة أو الواقع. لذلك فإن المقام يستوجب منا توضيح المقال، ليستقيم مقصود الكلام.
أولا: يتذرع السياسيون الأوروبيون والغربيون دوما بوضعية الشعوب المضطهدة للنيل من الدول التي تتحداهم سياسيا (كوبا، فنزويلا) أو اقتصاديا (الصين) أو عسكريا (روسيا، إيران، كوريا الشمالية) أو حتى أخلاقيا (تركيا، بعض البلدان العربية). لذلك فهي تتخذ انتهاك حقوق الإنسان وحرية التعبير والمعتقد مطية لتشويه الخصوم ليس عبر وسائل الإعلام فقط، بل عبر قطع العلاقات الدبلوماسية وسن القوانين والعقوبات الاقتصادية. وينطبق هذا بشكل نسبي على حالة المغرب الذي اعتمد في السنوات الأخيرة سياسة المواجهة العقلانية ضد بعض الدول الأوروبية كإسبانيا وألمانيا وفرنسا، وقد أثار ذلك الكثير من ردود الفعل السياسية والدبلوماسية والإعلامية الأوروبية ضد المواقف المغربية. ورغم عودة المياه السياسية إلى مجاريها الطبيعية مع إسبانيا وألمانيا، غير أن صورة المغرب تظل تنغص بعض الجهات الأوروبية المؤدلجة، التي لم تدرك بعد أن المغرب شريك استراتيجي وسياسي واقتصادي لا يمكن الاستهانة به أو الاستغناء عنه.
ثانيا: إن انتهاك حرية الرأي والتعبير ليس “ماركة مغربية مسجلة”، بل ظاهرة عالمية تحضر بشكل أو بآخر في مختلف السياقات والمجتمعات الإنسانية، حتى التي تدعي أنها متحضرة وغيرها برابرة! من الأكيد أن هناك مساجين ومعتقلين يقبعون في بعض السجون المغربية، وبغض النظر عن ملابسات اعتقالهم نتمنى أن يحظوا بالمحاكمات العادلة والعفو الشامل وجبر الضرر لمن لحق به أي ظلم. لكن ماذا عن السجون الفرنسية والبريطانية والأمريكية والروسية والصينية السرية؟ ماذا عن منفذي العمليات الإرهابية الذين يعاملون بشكل همجي ويعذبون بأقسى العقوبات النفسية؟
ثالثا: المفارقة الغريبة أن المؤسسات السياسية الأوروبية، بما فيها البرلمان الأوروبي، تجهد في وضع المغرب تحت مجهر المراقبة، وتشكك في كل ما حققه من مكاسب اجتماعية واقتصادية وتنموية أفضل بكثير مما حققته العديد من دول المنطقة المغاربية والإفريقية، دون أن تنبس ببنت شفة فيما يتعلق بحقوق الإنسان المهدورة في مختلف البلدان المجاورة. وقد تساءل أحد البرلمانيين الأوروبيين مستغربا حول عدم انتقاد دولة مجاورة للمغرب رغم أن حقوق الإنسان وحرية الصحافة تُنتهك فيها إلى أقصى الحدود!
رابعا: يعامل البرلمان الأوروبي المغرب بتناقض عجيب وغريب، فهو ينتقده بشدة فيما يتعلق بحرية التعبير دون انتقاد غيره من الدول بالشدة نفسها، غير أنه في الوقت نفسه يعتبر المغرب حليفا استراتيجيا كبيرا في المنطقة، لا يمكن الاستغناء عنه. من الأكيد أن المغرب بشكل حليفا استراتيجيا رغم أنف البرلمان الأوروبي والسياسيين المغرضين والصحافيين المؤدلجين، وهكذا ظل عبر مختلف الأحقاب التاريخية، وسوف يستمر حضوره وتأثيره في المنطقة، بل وتزداد حاجة أوروبا وإفريقيا والمنطقة العربية إلى التحالف والتعاون معه في المستقبل. لكن المروءة تقتضي أن يُعامل الصديق والحليف والشريك بما يناسب مقامه، فحقوق الإنسان والتعبير بدولة إفريقية لا تحتاج إلى أن تناقش في برلمان أوروبي خاص بالبلدان الأوروبية، بل عبر آليات دبلوماسية وحقوقية وقانونية بينية، فلو كان المغرب عضوا في البرلمان الأوروبي لاستوعبنا المسألة، وقلنا أن أوروبا تحب أن تعم العدالة كل المجتمعات والدول التي تنضوي تحت رايتها، بما فيها المغرب “الأوروبي”!
خامسا: عندما أسندت الأمور إلى غير أهلها من بعض اللوبيات السياسية المؤثرة أصبحنا نرى السياسيين الأوروبيين يحشرون أنفهم في شؤون البلدان الأخرى، ويغضون الطرف عما يحدث داخل أوروبا نفسها من انتهاكات لحقوق الإنسان والرأي والمعتقد. ليس بعيدا عن مبنى البرلمان الأوروبي يفترش آلاف اللاجئين العرب والأفارقة الأرض في هذا البرد القارس، بينما يُستقبل اللاجئون الأوكرانيون بالورد والياسمين. في عاصمة الأنوار تُنتهك حرمات المسلمات الأبيات ويجرد بعضهن من الحجاب، بينما يُسمح للشواذ بالتعري أمام الناس والكاميرات دون احترام للأعراف والأخلاق والأذواق. في السويد يحرق القرآن الكريم على مرآى من العالم، بينما مراكز ومؤسسات الحوار تتلقى الميزانيات الهائلة للتقريب المزيف بين الأديان والفلسفات.