ونحن نتابع الإنجاز التاريخي الباهر لمنتخبنا الوطني المغربي في منافسات كأس العالم (2022) بدولة قطر، سجلنا جملة من الملاحظات المثيرة التي تستحق بعض التريث والتأمل. وقد ارتأينا أن نناقشها في الفقرات الآتية.
1- أدى مغاربة أوروبا دورا مفصليا في هذا الإنجاز الرياضي الكبير؛ طاقم تدريب ولاعبين. فمن بين 26 لاعبا يشكلون المنتخب الوطني يلعب 20 لاعبا في مختلف الأندية الأوروبية في إيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا وإسبانيا وهولندا وبلجيكا. بالإضافة إلى المدرب وليد الركراكي الذي ولد في فرنسا ومارس فيها كرة القدم لاعبا قبل أن يزاول مهنة التدريب في المغرب وخارجه. وقد أثار حضور مغاربة أوروبا انطباعين متعارضتين. أحدهما ينطوي على إعجاب عربي وإسلامي وإفريقي رفيع بهؤلاء الفتيان الذين ولدوا وتربوا في أوروبا، ومع ذلك يظلون متمسكين بوطن أجدادهم وأبائهم الأصل: المغرب! أما الانطباع الثاني فلا يخلو من التحامل السياسي والإعلامي، لا سيما الذي عبّر عنه اليمينيون المتطرفون والشعبويون وبعض الإعلاميين المؤدلجين من خلال تشكيكهم كما العادة في حقيقة اندماج المغاربة في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها. وقد أصيبوا بصدمة غير متوقعة عندما لاحظوا الكفاءات الكروية والأخلاقية العالية التي يتمتع بها مغاربة أوروبا، لذلك لم يستوعبوا قبول هؤلاء الفتيان اللعب لصالح المغرب “المتأخر” على حساب البلدان الأوروبية “المتقدمة” التي ينتمون إليها ولادة وتعليما وتجنيسا.
2- ارتقت النخبة المغربية ومعها الجماهير المغربية بكرة القدم من مجرد لعبة بدنية وتكتيكية إلى قضية تحمل مختلف الرسائل الأخلاقية والروحية والإنسانية للعالم، تتسامى عما هو سياسي وإيديولوجي، وتقوض قيم الفلسفات المادية والاستهلاكية. وقد رصدنا لأول مرة في التاريخ، فريقا يتحلى بأخلاق راقية، تم ترجمتها من خلال شتى السلوكات الجميلة، كالمعاملة الحسنة للخصم، واللعب الجماعي على حساب الفرديات، وحضور الحس الوطني، وغيرها. وهكذا منح أسود الأطلس فرحتهم رمزية مغايرة شدت أنظار العالم؛ “سجود جماعي.. توحيد.. دعاء.. إيثار.. بر الوالدين.” ويعتبر هذا المكسب الأخلاقي من الأهمية بمكان في سياقنا المعاصر الذي يتخبط في الصراعات والحروب، حيث أصبحت كرة القدم أكبر من كونها لعبة للتسلية أو مهنة للاغتناء. إنها بمثابة آلية استراتيجية عابرة للحدود والإيديولوجيات، من شأنها أن ترسخ قيم التسامح والمواطنة والتعايش، وتطرح بدائل ناجعة لمواجهة آفات الفقر والإدمان والتطرف والصراع.
3- هناك فئة من “المثقفين السلبيين” التي تخلط بين الرياضة والسياسة، وهي تستحضر في مواقفها نظرية المؤامرة وتدجين الشعوب وغلاء المعيشة وغيرها. وقد لاحظنا كيف كان البعض يستهون في البداية بكرة القدم وكأس العالم والفريق الوطني المغربي، غير أنه بمجرد ما انطلق أسود الأطلس يحصدون النصر تلو النصر، بدأ أولئك يغيرون موقفهم السلبي ويكيفون خطابهم المشكك، لينتهي بهم الأمر إلى نشر التهاني وصور اللاعبين والأعلام المغربية. وهذا لعمري تطور إيجابي وجميل نستحسنه إلى أقصى الحدود. ونتمنى أن ينتبه هؤلاء إلى أهمية الرياضة وكرة القدم بوجه خاص، التي أنقذت الآلاف من شبابنا من آفات تعاطي المخدرات والإجرام والعنف، وأكسبتهم أخلاق التسامح والصبر والانضباط والسخاء. ثم لا يمكن أن نغض الطرف عن القيمة الرمزية الفائقة للكرة المستديرة. إن ما أنجزه أسود الأطلس إلى حد الآن في هذه الكأس العالمية بعثر أوراق الإعلاميين والسياسيين والمحللين لا سيما في الغرب، فأصبحوا ينظرون بجدية إلى المغاربة والمنتخب المغربي، الذي لم يكونوا يذكرونه إلا بشكل عرضي، وكأنه جيء به فقط ليستكمل عدد فرق المجموعة السادسة.
4- بفضل إنجاز أسود الأطلس صار اسم المغرب علما على نار، يتردد على كل لسان عبر العالم. وقد تواردت التهاني البهيجة بشتى اللغات، ومن مختلف البلدان والقارات. ولعلها المرة الأولى في تاريخنا المعاصر التي نشعر فيها نحن المغاربة بأن العالم يقدرنا حق تقدير!
5- لا يمكن أن يمر نقاش في الإعلام أو بين الناس العاديين حول المباريات التي لعبها أسود الأطلس في منافسات كأس العالم الحالية دون التطرق إلى الجماهير المغربية، التي جاءت من كل حدب وصوب لتناصر وتدعم منتخبها الوطني. وقد تميزت هذه الجماهير عن غيرها من جماهير كل الفرق الإثنين والثلاثين الأوروبية والأمريكية والإفريقية والأسيوية التي شاركت في هذه الكأس، وذلك بشهادة الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) وأغلب وسائل الإعلام العربية والدولية. وما يميز الجماهير المغربية هو أنها تشجع المنتخب بروح وطنية عالية، وبشكل متواصل منذ انطلاق المباراة إلى انتهائها، وهي تبدع إلى أقصى الحدود عبر ترديد مختلف الأناشيد والأهازيج الوطنية بصيغة جماعية يتخللها التصفير والتصفيق والحركات والألوان والأعلام والشعارات، كما أنها تحرس دوما على تمرير مختلف الرسائل التي تستنكر فيها العنصرية والظلم والاحتلال الصهيوني وهلم جرا. بينما كنا نتجاذب هذا اليوم أطراف الحديث عن بعض مظاهر كأس العالم، سألتني زميلة حول ما إذا كنت توصلت برابط الشريط الذي يوثق للمتفرجين اليابانيين وهم ينظفون الملعب بعد انتهاء المباراة. فقلت لها أنه سبق لي وأن رأيته، وإنه ليعبر عن سلوك حضاري راق. وهذا نفسه ما تقوم به الجماهير المغربية عند نهاية كل مباراة. لا أدري ما إذا كان قد استساغت كلامي وصدقته، لكن لاحظت على قسمات وجهها ما يشبه الإعجاب، لا يهم إن كان حقيقيا أو مزيفا، بل الأهم أن الرسالة وصلت، ومؤداها أن التحضر لا يقتصر على الأوروبيين واليابانيين، بقدر ما هو قيمة مشتركة بين جميع الناس. وفي الأخير، من باب الإنصاف الواجب والتقدير اللازم أن نرفع القبعة لدولة قطر، التي منحت كأس العالم صورة مغايرة، ليست بألوان قوس قزح، كما كان ينتظر بعض المرجفين في الأرض! إن الملايير التي أنفقتها دولة قطر على تنظيم كأس العالم لم تذهب سدى كما كان يتشدق بعض المحللين الأوروبيين، بل أحدثت ما يشبه “الصدمة الأخلاقية” عبر العالم الغربي والشرقي. ونعتقد أنه سوف تكون له تداعيات إيجابية فيما يتعلق بمستقبل الإسلام والمسلمين. فاليوم يمكن الحديث عن إعادة اكتشاف حقيقية للإسلام في تربته الأصلية بعيدا عن الروايات الإعلامية الصفراء والمغالطات السياسية المؤدلجة والتشكيكات الفكرية الموجهة. إن مئات الآلاف من المشجعين الغربيين والآسيويين والأفارقة الذين زاروا هذه الأيام دولة قطر انبهروا ليس بما رأوه من ناطحات سحاب وملاعب متطورة ومركبات تجارية، بل بما عايشوه من دفء اجتماعي وكرم الضيافة وروحانيات. كما أن مليارين ونصف المليار من مشاهدي منافسات هذه الكأس عن بعد، لاحظوا شيئا مختلفا جملة وتفصيلا عن الدورات السابقة، ما يغري بالتعرف الجدي والمؤسس على الإسلام والمسلمين والثقافة العربية، سواء عبر الدراسة أو السياحة. وهذا ما يخشاه أعداء الإسلام والمسلمين!