لازالت فرنسا تعيش على الأثر، وعلى تاريخها الحدثي الدموي في إفريقيا. لا زال خيالها التوهمي يشيد صروحا وقلاعا كبيرة، ضخمة جدا من رمال صحراء بلدان غرب إفريقيا المتفردة بعلاماتها ودلالاتها الثقافية والحضارية رغم المجهودات الاستعمارية اليائسة لاقتلاعها.
الوعي متقلب، والجدلية الهيمنية ليست دائما للسان. فالمتقن للكلمة البلاغية، أو الاستعارة قد تفقد المعنى أو قد تنحرف عن مبتغاها. ينطبق هذا على كلمة المتعجرف إيمانييل ماكرون التي جاء اليوم تحمل تهديدا، وعَنَّ، من خلال هيئته المظهرية، متمنطقا بسوط (استعارة من ف. نيتشه) ضباط الإقامة العامة وسادة قصر فيرساي الاستعماريين ليجلد الشعوب الإفريقية العاقة، المتحررة من الهيمنة الأيديولوجية والسوسيواقتصادية الفرنسية، ومن سلطتها البطريركية. “ما كان لمالي ولتشاد ولبوكي نفاصو والنيجر أن توجد لولا مَنِّ فرنسا عليها وتحديد حدودها”.
لم يدرك ماكرون أنها شعوب وكيانات مستقله وجوديا بنظامها العشائري والقبلي الراسم لنظامها الديمقراطي، على الهيئة التي اختارتها، فاحْتُلَّتْ بالقوة والنار والإبادة الفرنسية، وعبثت فرنسا بنظامها ورسومها الثقافية وأدلتها المشكلة لكينونتها، واستنزفت خيرات أرضها ونهبت، واغتنت، وكرمت أهلها “ذوي الخدود الحمر” بثرواتها، في حين احتقرت وأفقرت وهمشت الشعب المالك لمناجم الذهب والماس والأحجار الكريمة والمعادن المحركة لاقتصادات العالم. نهلت فرنسا من نعمة الشعب النجيري، فحالت لذة النعمة وشهوة الاعتياش النبيل دون مغادرة ” نيامي”، فلم يستجب السفير الفرنسي، ولا قواته الغير مرغوب فيهما، لمطالب الشعب النجيري بمغادرة البلاد. يعكس هذا التعنت الفرنسي بعدين خطيرين:
1 – بعد التفكيك والتجزيء:
والمقصود العمل على تفكيك الشعب النيجيري إلى طائفتين متناحرتين، والتدخل بالتالي باسم التهدئة وفك الصراع وحماية الدول السابحة في فلك فرنسا من عدوى الحرب والانقلابات والحروب الأهلية.
2- بعد الانتقام والثأر اللا حضاري:
أي العمل في حالة عدم الاستجابة لإعادة “بازوم” إلى الحكم، على إشعال فتيل حرب مدمرة وشاملة في المنطقة، والانتقام بالتالي من الدول التي طردت فرنسا من بلدانها.
قد تنتشر هذه الاستراتيجية الجهنمية لإلحاق الأذى بالبلدان الأكثر استقرارا بالمنطقة، كما قد تحفز من يحمل في جوفه بوادر الشر للانخراط في مثل هذه المهالك.
فما عبر عنه الشعب النيجيري من خلال قادته الشبان التحرريين هو:
1- تحرير البلاد من الاغتصاب الاقتصادي الفرنسي المادي واللامادي لثروة الشعب النيجيري الغني المُفَقَّرُ. فإن كانت نيجيريا وغيرها من البلدان الخاضعة لهيمنة السلطة الفرنسية قد استقلت شفويا أو “لِسْنِيّا”، فإن شعوبها واعية بأنها لازالت لم تتحرر بالمعنى الحقيقي للكلمة.
2- القطيعة مع القادة “الدساسين”، خدام الاستعمار الفرنسي الجديد ومدرائه المكاتبيين السماسرة العاملين على”ترانسفير” و”ترانزيت” ثروة البلد لقصر فيرساي ورفاه المواطن الفرنسي. فما قام به الضباط الشباب بنيجيريا هو امتداد ديناميكي لتاريخ تحرير الشعوب المقهورة عبر العالم، وهي لحظة من لحظات العصر الذهبي لحركات التحرر المعادية للاستعمار(حسب تعبير إدواد سعيد/ الثقافة والامبريالية).
إنها حركة تحررية ثانية جديدة على غرار حركة باتريس لومامبا، وأملكار كبرال، وتوماس سنكارا، وحركة فرانز فانون، والحركة الزنجية، وحركة جمال عبد الناصر وبورقيبة وفرحات حشاد ومحمد الخامس والمهدي بنبركة ورجالات المقاومة بالمغرب وفي العالم الثالث وأسيا والهند وأمريكا اللاتينية وغيرها.
إن الحركات التحررية الأفريقية الجديدة دالة على أفول نجم الشعور الأبوي الفرنسي تجاه الآخر، وبالتالي على ولوج عتبة وعييه الشقي، وهو المدرج الذي يتدحرج حاليا فيه (داخليا وخارجيا) إيمانييل ماكرون.