خمسة وسبعون عاما، والاسرائيليون يحاولون تسويق “روايتهم” للنكبة الفلسطينية. تلك الرواية التي ابتدأ الصهاينة بالتأسيس لها حتى قبل حدوث النكبة نفسها في العام 1948، حيث لم تكن النكبة اكثر من ملء لما تبقى من فراغات في أسطر الرواية، وتدشينا لها.
اعتمد الصهاينة ومن ثم اسرائيل في صناعة تلك الرواية، على كل ما امتلكوا من مخيال اسطوري، وتمترس ديني، واصطفاف “العالم” بقواه المختلفة، وايديولوجياته “المتصارعة” الى جانبهم، اضافة الى “هشاشة” الرواية الفلسطينية – إن صحت تسميتها رواية – وتبعثرها، فجاءت رواية مشروع متكامل الأركان، محبوكة “بإتقان” لم يكشفه سوى الكذب الذي بنيت عليه، بعكس الرواية الفلسطينية التي بقيت جزرا متناثرة ليس من السهل رؤية خيوط ترابطها، ولم تتعدى كثيرا وصف الضحية لمعاناتها، والتي لم يحفظها من الاندثار غير ارتباطها العضوي بالحقيقة.
في ذلك اليوم (المعجزة) الذي احتضنت فيه غزة غلافها، اذ العكس هو المألوف، رجعت عقارب الساعة خمسة وسبعين عاما، وبدى “المشهد” الاسرائيلي أمام العالم عاريا كما ولدته (الامبريالية)، فتلاشت قدرة اسرائيل على “التمثيل” مرة واحدة، وشعرت أن كبرياءها الذي جرحه “البدائيون”، لن يستعيده إلا ظهورها على حقيقتها، دون الحاجة “لمساحيق” الليبرالية الجديدة من “حداثة وديموقراطية وحقوق انسان”.
رجوع اسرائيل الى وضعها الحقيقي والطبيعي بفضل ذلك اليوم، كان هدية “التاريخ” للفلسطينيين وللبشرية في العام الجديد، ساعد في ذلك السوشيال ميديا بالتأكيد، فكان أن ذهبت اسرائيل الى غزة بنفسها، وأعادت تمثيل النكبة الأولى أمام أعين العالم. لم تكن اسرائيل مطالبة بأية أعباء أو إضافات لتعيد ذلك المشهد، فقط يكفي أن تكون كما هي، على طبيعتها، لتكون نكبة.
النكبة اسرائيليا
منذ بدايات المشروع الصهيوني في فلسطين، كان من الواضح أنه مشروع استعماري احلالي. يقوم على التخلص من السكان الفلسطينيين الأصليين، والإتيان بيهود مكانهم. هي معادلة واضحة وبسيطة، ناس “يختفون” ليأتي آخرون مكانهم. وعندما تأكد الصهاينة من التخلص من معظم الفلسطينيين قتلا وتهجيرا، اعلنوا “استقلال” دولة اسرائيل، التي اعتمدت منذ البداية سياسات وقوانين تحول دون عودتهم، وتدفع بإتجاه خروج من تبقى منهم، وتشجع اليهود للقدوم ( حق العودة) مكانهم.
ارتبط “استقلال” (وجود) اسرائيل بنكبة الفلسطينيين، ويستمر وجودها باستمرار تلك النكبة، بمعنى بالاستمرار في تهجير الفلسطينيين والحيلولة دون عودتهم لوطنهم. تلازم “استقلال” اسرائيل ووجودها مع نكبة الفلسطينيين وتهجيرهم، هي المعضلة التي أوجدها المشروع الامبريالي في المنطقة، اذ لا مجال لفك الارتباط بينهما، فاسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي عليها التأكد من وجودها كل يوم، ذلك الذي لا يتم إلا بقتل الفلسطينيين وتهجيرهم.. لسان حال اسرائيل يقول.. “أنا أقتل اذا أنا موجود”.
من أجل ذلك لا يتوقف الجهد الاسرائيلي للتخلص من الفلسطينيين ولو للحظة واحدة، فهي تصوغ من أجل ذلك القوانين، و”تتفنن” في جعل حياة من بقي منهم على الاراضي الفلسطينية اكثر تعقيدا وصعوبة.
ولكي تكون أكثر “اطمئنانا” تلاحق اللاجئين حيث استقروا بعد اللجوء، فهي لا تريد الفلسطينيين لاجئين فقط، ولكن لاجئين على “مزاجها”، فتعمل على إيجاد المشاريع لتوطينهم حيث هم، أو لتشتيتهم قدر الإمكان حتى تفكك مجتمعات اللجوء، وتتآمر على الاونروا حتى تخفي معالم “الجريمة”، وتسعى الى تدويل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين لتجعل منها، أي لتجعل من بقاء نكبة الفلسطينيين مشروعا “هما” دوليا.
ولكي تكتمل أركان النكبة اسرائيليا، كان لا بد من صياغة الرواية الاسرائيلية التي تقدم للعالم بشكل يمكن من استثمارها بالحد الأقصى. لقد صيغت تلك الرواية في جو خرجت فيه اسرائيل منتصرة على “انقاض” الشعب الفلسطيني، يتعاطف معها “العالم”، بل ويبدي إعجابه المذهل بها.
بنيت الرواية الاسرائيلية على الادعاء بعدم وجود شعب فلسطيني، وأن اسرائيل ليست مسؤولة عن ذلك “الشيء” الذي حدث للعرب الذين “تصادف” وجودهم في “أرض اسرائيل” حين “استقلت” الدولة، و”يحلو” لهم تسمية أنفسهم بالفلسطينيين، بل هم المسؤولون عما جرى لهم عندما حاولوا مقاومة إنشاء اسرائيل، أو أن الذي جرى لهم هو أقرب الى الكارثة الطبيعية (قضاء وقدر) التي تصادف حدوثها مع إنشاء اسرائيل، وفي أحسن الأحوال، هي أعراض جانبية “لحرب” شنتها الدول العربية على اسرائيل “الناشئة”.
في كل الأحوال أرادت اسرائيل القول أنها بريئة مما حدث – وإن كانت غير نادمة عليه -، وأن الفلسطينيين بمقاومتهم، أو بامتثالهم “لأوامر” الزعامات العربية التي “طلبت” منهم الخروج، أو نتيجة لأصولهم البدوية التي لا تستأنس الاستقرار في مكان، وتمتهن الرحيل الأبدي، هم المسؤولون عما جرى لهم، عن “نكبتهم” إن كانوا يحبون تسميتها كذلك.
قيلت هذه الرواية لعشرات السنين، مقرونة بصور نمطية للفلسطينيين كعرب ومسلمين وشرقيين “متخلفين” يرفضون التقدم، ولا يفهمون مصلحتهم، ولا يدركون أهمية وجود اسرائيل “المتفوقة” و”المبدعة” الى جانبهم. هؤلاء “الفلسطينيون” الذين بامكانهم العيش في اثنتين وعشرين دولة عربية، ويستكثرون على اليهود دولة واحدة، ولا يتقنون إلا التباكي واحتراف الحزن واستثارة العواطف !!!!!!.
النكبة فلسطينيا
مع الإعلان عن قيام اسرائيل في العام 1948، وجد الشعب الفلسطيني أن نصفه قد أصبح خارج وطنه، لاجئا في الدول العربية المجاورة وفي شتى أنحاء العالم. وتبعثر المجتمع الفلسطيني الى مجتمعات صغيرة مشتتة في بلدان اللجوء وفي ما تبقى من أرض الوطن. ورغم حق العودة الذي أقرته الأمم المتحدة، إلا أن ذلك بقي متعذرا بسبب الرفض الاسرائيلي القاطع لذلك.
لكن التهجير الذي عانى منه الفلسطينيون، والإصرار الاسرائيلي على استمراره وتعميقه،أعطى النكبة مفهوما تجاوز ما عاناه الفلسطينيون جراءها، فاكتسب الوطن (والعودة اليه) معنى الحياة، والهجرة معنى الموت. فالخروج بالنسبة للفلسطيني يعني اللا عودة، هذا ترسخ في الوعي وفي الوجدان وفي الإدراك “الغريزي”. لهذا بقي الفلسطيني في غزة رغم كل الدمار، فهو وقد جرب اللجوء أول مرة، يدرك أن الهجرة “أشد من القتل”.
لكن النكبة الفلسطينية لم تنتج الرواية التي تستحقها. لم ترتفع لمستوى التصدي للرواية الإسرائيلية التي كانت جزءا من مشروع صهيوني متكامل، فهي لم تتعد وصفا “للأفراد” الفلسطينيين لمعاناتهم اثناء النكبة، لذلك لم تنضج لتصبح رواية بمعنى الكلمة، ولم ترتق لمستوى رواية كجزء من مشروع فلسطيني للتحرر.
رواية الفلسطينيين لنكبتهم تشبه الى حد بعيد، روايتهم لما جرى لهم على الحواجز الاسرائيلية اثناء الانتفاضة. كل منهم روى ما جرى له أو معه على الحاجز… واحد ضربه الجنود، وآخر قاموا باحتجازه، وثالث طلبوا منه أن “يغني”… الخ، فجاءت الرواية عن الحاجز كل ذلك، لكنها منعزلة عن السياق الذي وضعت فيه تلك الحواجز واهدافها وعلاقتها بالإحتلال.
لم تنضج الرواية الفلسطينية للنكبة، فالضعف ينتج فهما مشوها للأشياء. وبمرور الوقت، وقوة الاعلام المعادي، تأثرت الرواية الفلسطينية الضعيفة بالرواية الاسرائيلية. لم يتزعزع إحساس الفلسطيني بالظلم، لكن براهينه باتت أقل وضوحا، وذهب بعض العرب في تبريرهم للتطبيع لتصديق الرواية الاسرائيلية، وأخذوا بترديد ما يقوله الاسرائيليون حول “بيع” الفلسطينيين لأرضهم، وحول خروجهم “الطوعي” من فلسطين.
السا بع من أكتوبر.. إعادة الوعي
كان السابع من أكتوبر مصدر إنعاش للتاريخ وللتأريخ الفلسطيني. عادت اسرائيل النزقة والمترددة والمهزوزة والمجروحة الى طبيعتها، حيث لا وقت للتصنع ولا للتذاكي، ففقدت قدرتها على “الكذب” الذي قامت عليه وعاشت عليه، بل لم تعد تشعر بقيمة ذلك الكذب وبضرورته، فالوقت لا يتسع إلا للانتقام، والانتقام وحده، وهو ما قادها الى محكمة لاهاي.
اظهر انكشاف اسرائيل مشهد النكبة الحقيقي الذي أخفته طيلة الوقت، وأظهر رغبتها واندفاعها لصنع نكبة جديدة، أو في تجديد النكبة الأولى المستمرة بوتائر مختلفة منذ البدايات.
في ذلك اليوم، عرف الفلسطينيون أن نكبتهم لا تنتهي إلا بعودتهم، وبعدم السماح بتهجيرهم مرة أخرى. وعرفوا كم ظلموا اباءهم وأجدادهم، عندما خطرت ببالهم فكرة أنهم قد يكونوا استسهلوا الرحيل على المواجهة، فبالتأكيد لم يكن ما ارتكبه الصهاينة لصناعة النكبة الأولى أقل مما ارتكبوه من أجل النكبة الثانية، وفي ظروف كان إخفاء الحقائق فيها يتم في غاية السهولة…. ذلك اليوم انقلاب في التاريخ الفلسطيني، سمح باستعادة المشهد، ووعيه بطريقة مختلفة، وأظهر ضرورة رد الاعتبار لجيل النكبة الذي عانى ما عاناه، رغم أن جزءا كبيرا من الحقيقة قد تم إخفاءها.