الثقافة فعل عملي يرتبط بالتداول في القضايا ذات الصلة بالشأن العام كقضايا الحرية والديمقراطية والتعليم والمساواة والإنصاف والعدالة الخ…إنها نقيض المقاربات التقنية التي تجعلها إطارا مائعا تدرج ضمنه كل الممارسات بغض النظر عن مردو ديتها المجتمعية والقيمية والتنموية. لكن يبدو أن الوزارة الوصية عن تدبير الشأن الثقافي بالمغرب تتمثلها في صورة الترف الفكري والإبداعي الذي يخوض في القضايا ذات القيمة المحدودة الأثر، والعديمة الجدوى، والناقصة الفعالية، والضعيفة المردودية الاجتماعية والاقتصادية.
يتم إسقاط هذا التمثل الرسمي السلبي للثقافة على المثقف فيقدم في جلباب الكائن العدمي، والمشوش، والحالم، وغير الواقعي والنظري. ويوصف في حالات أخرى بالانبطاحي الذي يسهل توجيهه، وتأطيره، وتسييجه، وتجاهل رأيه وموقفه،والتدخل في الإطارات التي ينتسب إليها، بغض النظر عن المرجعيات القانونية، ومقولات الاستقلالية والحكامة الداخلية… وهو ما يفسر الكثير من الممارسات التي تطول الأفراد والمؤسسات؛ لأن الشعار الضمني لهذا التدبير الرسمي هو: قل ما تريد، وتكلم بما ترى، فإننا لن نولي ذلك اهتماما. ودعك من الحديث عن الديمقراطية التشاركية فهي شعار من لايشارك، وأن المسؤولية تلزم بوجوب تحريرالثقافة من إفك المواقف، وجعل (الرأي الواحد) أساسا للآراء، وجعل الآخرين منفذين لاشركاء،وإنهاك الثقافة بإسهال المهرجانات التي تشتغل بدون مشروع أو أفق، لكنها تمنح أرقاما يستدل بها للتدليل على أن الوزارة تشجع الفعل الثقافي وتتبناه، وتحتضن المثقفين بدعم أعمالهم، وتحفيزها.
هذا الفهم العام هو مايفسر الكثير من المواقف الرسمية،وما يترتب عنها؛ فإلغاء جائزة المغرب للكتاب، وقرصنة المعرض الدولي للكتاب بتحويل وجهتته قسرا من الدارالبيضاء إلى الرباط، والتفكير في(احتضان) المؤسسات الثقافية الممثلة للمثقفين وتوجيهها، وغياب تخطيط منهجي لتدبير الشأن الثقافي، وتهميش الثقافة الجدية، وتجاهل المثقفين الممانعين للتميع،وغيرها من الممارسات التي تؤكد أن الاستهانة بأهل الثقافة هي العملة المتداولة، وأن ردود فعلهم ليست سوى رماد ينتهي وهجه بتجاهله
لاشك أن هذه التصورات الرسمية بنيت على الاستهانة بقيمة الثقافة وأدوار المثقف، وعدم الانتباه إلى أن الحقوق الثقافية أصبحت اليوم جزءا من المنظومة الحقوقية الكونية، وأنها آخر جيل من الأجيال الحقوقية؛ مما يجعل كل قضية ثقافية محلية قابلة لمقاربة حقوقية دولية…يكفي أن نشير إلى المعطيات الآتية:
- الإعلان العالمي للحقوق الثقافية-برشلونة 1996؛
- إعلان اليونسكو حول التعدد اللغوي 2001؛
- اتفاقية باريس 2005 حول تنوع التعابير الثقافية والنهوض بها؛
- إعلان فريبوك حول الحقوق الثقافية 2007؛
- تعيين خبيرة مستقلة للأمم المتحدة في مجال الحقوق الثقافية 2009.
هذا البعد الحقوقي للثقافة الأممي يجعلها في صلب الاهتمام بحق أساسي من حقوق الإنسان الفردية والجماعية، بل وركيزة أساسية في قضايا التنمية بمختلف صفاتها..،يقارن صمويل هنتغتون بين غانا وكوريا الجنوبية خلال التسعينيات من القرن 20 فيسجل التشابه بين اقتصاديهما، لكنه يسجل التباين الذي سيحصل بعد 20 سنة، ويفسر ذلك باختلاف الثقافات، وينتهي إلى القول( الحقيقة المحورية … هي أن الثقافة وليست السياسة هي التي تجدد نجاح المجتمع، وأن الحقيقة الليبرالية هي أن الثقافة يمكنها أن تغير ثقافة ما وتحميها من نفسها).
ذكر هذه المعطيات ليس مجرد استعراض نظري؛ لأنه يقع في صلب مناقشة تدبير وزارة الثقافة للشأن الثقافي المغربي، ففي الوقت الذي نجد أن تدبيرها ظرفي، ومناسباتي، ومحكوم بردود الفعل، والإصرار على المواقف مهما كانت مرفوضة،وغير فعالة… نجد فيه تعبيرا عن غياب المشروع، وعدم امتلاك تصور إيجابي للعمل الثقافي،وأنه تخطيط بالهدم: هدم المكتسبات،وهدم الإرادات المؤمنة بقيمة الثقافة ودورها في الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي تواجه المغرب. ذلك أن أزمات البلاد في جزء كبير منها أزمة اختيارات قيم ثقافية مثلما هو حال قضايا اللغة والهوية والتطرف والموقف من المرأة والإرث والحريات الفردية والديمقراطية والعدالة المجالية…وغيرها كثير. ولاشك أن في تعطيل أدوار الثقافة هدر للزمن الاجتماعي والإنساني والتنموي،وتعطيل لكل الحلول الممكنة التي يمكن أن تعود بالفائدة على البلاد والعباد.