‏آخر المستجداتلحظة تفكير

د.سارة حامد حوَّاس*: چون بيريمان.. الشَّاعر الذي لم يحمل اسم أبيه

ـ يُعدُّ أحد أهم الشُّعراء الأمريكيين في القرن العشرين ـ

د.سارة حامد حوَّاس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

انتحر أبوه أمام عينيه وهو انتحر بعد ذلك

أمه تزوجت مالك البيت ومنحت اسمه لابنها

ظل طوال حياته يعاني من عدم استقراره العاطفي والعقلي وإقباله على الكحول مما جعله يشعر بعدم بالأمان والاستقرار

اشتهر بمغامراته النسائية ومزاجه المتقلب غير المستقر

ما شعور طفلٍ يبلغ من العمر اثنى عشر عامًا رأى أباه ينتحر بإطلاق النَّار على نفسه تحت شباك غرفة نومه إثر صفقة تجارية فاشلة ؟ ماتأثير تلك الصدمة على طفلٍ ما زال يتحسس طريقه في الحياة ولا يدري المصير الذي ينتظره بعد انتحار أبيه؟ هل سيستوعب الصدمة ويُكْمِل حياته بصورة طبيعية أم ستؤثِّر عليه وتعيقه عن استكمال حياته كطفلٍ عاديٍّ؟

كل تلك الأسئلة راودتني عندما قرأتُ السطور الأولى عن حياة الشَّاعر الأمريكي چون بيريمان الذي لم يحمل اسم أبيه(سميث).

وُلِد الشاعر الأمريكي چون بيريمان في مكالستر،أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية في عام ١٩١٤.بعد فشل مسيرة سميث المهنية ،أصبح مكتُئبا ومنعزلًا فتدهورت علاقته بزوجته ودخلت زوجته في علاقة مع بيريمان مالك شقتهما ،وفي حالة من السُّكْر والاكتئاب ،انتحر سميث بعد ذلك برصاصة أطلقها على نفسه في عام ١٩٢٦.

تزوجت والدة چون بيريمان بعد وفاة زوجها سميث بثلاثة أشهر فقط ،وحمل اسم زوج أمه الجديد (بيريمان) فسمي چون بيريمان بدلًا من چون سميث وعاش بعد ذلك في ماساتشوستس ونيويورك.

قُيِّد بيريمان في عام ١٩٢٨ في مدرسة ساوث كينت في كونيتيكت ،وهي مدرسة داخلية معروفة بالبرامج الرياضية التنافسية واهتمامها بها أكثر من اهتمامها من البرامج الأكاديمية كما أن بيرمان لم يكن  مهتمًا بالرياضة ،ولم ينسجم في هذه المدرسة، كما أن إصابته بحَبْ الشباب في تلك الفترة أدت إلى تكالب المتنمِّرين عليه ،فحاول الانتحار بعدها في عام ١٩٣١ ،وعلى الرغم من كل تلك المصاعب والمشكلات التي واجهها بيريمان ،تفوق أكاديميًّا في ساوث كينت وكان أول طالب في تاريخ المدرسة ينهي دراسته مبكرًا من دون الحاجة إلى إكمال الفصل الدراسي الأخير.

تخرَّج چون بيريمان تعليمه في جامعة كولومبيا عام ١٩٣٦ حيث  تأثر هناك من خلال دراسته بالشَّاعر مارك ڤان دورين Mark Van Doren (١٨٩٤-١٩٧٢)الذي اعتبره بيريمان أباه الروحي ومُرشده  ،فكان بيريمان طالبًا مجتهدا فعند تخرجه في جامعة كولومبيا  بشهادة في اللغة الإنجليزية ، حصل على ”زمالة كيليت ” التي أهلته بعد ذلك إلى الدراسة في كلية كلير بكامبردج بإنجلترا لمدة عامين والتقى هناك بالشَّاعرالبريطاني الأمريكي ويستن هيو أودن Wystan Hugh Auden (١٩٠٧-١٩٧٣)، وبالشَّاعر والكاتب الإنجليزي ديلان توماس Dylan Thomas(١٩١٤-١٩٥٣)وأيضًا بالشَّاعر والكاتب الأيرلندي الحائز على جائزة نوبل وليام بتلر ييتس William Butler Yeats(١٨٦٥-١٩٣٩)،كما أنَّه تأثَّر بصديقه الشاعر الأمريكي روبرت لويل Robert Lowell (١٩١٧-١٩٧٧).

في عام ١٩٣٩،عمل بيريمان في نيويورك محررَ شعرٍ بدوام جزئي في مجلة ذا ناشين The Nation ومدرسا في جامعة وين بديترويت.

وفي ديسيمبر من العام نفسه،دخل بيريمان المستشفى بسبب أعراض شُخِّصت حينها على أنها ”صرَع” واستمر طوال حياته يعاني من عدم استقراره العاطفي والعقلي وإقباله المتزايد على الكحول ،مما جعله يشعر  بعدم  بالأمان والاستقرار.

في عام ١٩٤٠، درَّس في جامعة هارفارد ونشر أول قصائد في  مجموعة ”خمسة شعراء شباب أمريكيين”.

ونشر بيريمان هذه القصائد نفسها بشكل منفصل في عام ١٩٤٢ ،وحظي بالتقدير من قِبَل بعض النُقَّاد ،وعُرِف بالدقة التقنية في شعره وأسلوبه غير الشَّخصي ،كما انتقده بعض آخر من النُقَّاد واتهموه باهتمامه الكبير بالشكل وليس بالمحتوى كما أنه افتقر إلى العاطفة والمضمون والعمق في كتاباته.

وفي عام ١٩٤٢، تزوج بيريمان من زوجته الأولى  إيلين باتريشيا مولليجان وفي العام التالي ترك هارفارد ولم يتمكن بعدها على الفور من الحصول على وظيفة أخرى وظل جزءا من عام ١٩٤٣ يُدرِّس اللاتينية والإنجليزية في مدرسة ثانوية وقبل نهاية العام نفسه ،دعاه الروائي الأمريكي ريتشارد بلاكمور (١٨٢٥-١٩٠٠)  للانضمام إلى هيئة التدريس في جامعة برينستون كمعلم في قسم الأدب الإنجليزي وقضي السنوات العشر  التالية في برينستون حيث كان مهتما حينذاك بتدريس نصوص مختلفة للشاعر والكاتب المسرحي وليام شكسبير William Shakespeare  كما أنه اشتهر بطريقته الجذَّابة في التدريس وبحلول منتصف الأربعينيات اشتهر أيضا بإدمانه الكحول ومغامراته النسائية ومزاجه المتقلب غير المستقر  حيث كان ينتقل من المحبب إلى المخيف فجأة من دون سبب وكان ذلك واضحا جليا أمام طلابه والمقربين  منه ، فسلوكه الغريب أحيانا كان يعكس قلقه الداخلي العميق.

وبعدها بست سنوات أي في عام ١٩٤٨ ، نشر أول كتاب شعري له ”المنبوذون” The Dispossessed،وعلى الرغم من أن شعر بيريمان كان مُقدَّرًا من قِبل النقاد فإنه اتُهِم بأن البناء النحوي لقصائده مجهد وأغلب قصائده صعبة الفهم واُنُتِقَدَ مرةً أخرى بإنفاق طاقة كبيرة على الأشكال الفنية وبفقدان أي عمق للمشاعر والحواس وعلى الرغم من كل ذلك تفوق بيريمان على نفسه وحصل على جائزة شيري ميموريال من جمعية الشعر الأمريكية .ثم تبع ذلك سيرة نقدية عن الشاعر والروائي الأمريكي ستيفن كريين Stephan Crane (١٨٧١-١٩٠٠).

أمَّا بعد فترات تدريس في جامعتيْ هارڤارد وبرينستون تولَّى بيريمان  في عام ١٩٥٥ منصبًا في جامعة مينيسوتا حيث ظل حتَّى وفاته.

أمَّا عن أهم أعمال الشَّاعر الأمريكي چون بيريمان فهي :كتاب ”قصائد” Poems في عام ١٩٤٢،” المنبوذون” The Dispossessed في عام١٩٤٨، ”تحية إلى العشيقة برادستريت” Homage to Mistress Bradstreet في عام ١٩٥٦ ،وكتاب”سبعة  وسبعون حلمًا ”77 Dream Songs في عام ١٩٦٤ والذي حاز على إثره جائزة البوليتزر في عام ١٩٦٥،”سونيتات بيريمان” Berryman’s Sonnets في عام١٩٦٧،وكتاب”لعبته،وحلمه،وراحته” His Toy,His Dream His Rest’’ في عام ١٩٦٨،و”أغاني الحلم” The Dream Songs في عام١٩٦٩،وكتاب”الحب والشهرة” Love and Fame في عام ١٩٧٠،وكتب أخرى نثرية:منها كتاب ”حرية الشَّاعر” The Freedom of the Poet في عام ١٩٧٦،وكتاب ”شكسبير بيريمان” Berryman’s Shakespeare في عام ١٩٩٩،وغيرها من الكتب الشعرية والنثرية الأخرىالكثيرة والمتنوعة.

وقد حصد بيريمان العديد من الجوائز الكبرى في الشعر مثل :جائزتيْ الكتاب الوطني وبولينجن في عام ١٩٦٩وزمالة الأكاديمية الأمريكية للفنون  والعلوم في عام ١٩٦٧ وزمالة أكاديمية الشعراء الأمريكيين في عام ١٩٦٦ وجائزة البوليتزر في عام ١٩٦٥ وزمالة جوجنهايم في عام ١٩٥٢وجائزة شيلي التذكارية في عام ١٩٤٩.

في عام ١٩٥٥ دعا الشاعر آلين تيت Allen Tate(١٨٩٩-١٩٧٩)چون بيريمان للتدريس في جامعة مينيسوتا وأصبح مهتمًا بعد ذلك بتفسيرالأحلام والتي درسها بعمق ودفعته بعد ذلك إلى إنجازِ عمل عظيم ”أغاني الحلم” Dream Songs وذلك في عام ١٩٦٩.

في عام ١٩٥٦ بعد أسبوع واحد من طلاقه من زوجته الأولى ،تزوج بيريمان من آن ليڤين التي كانت تبلغ الرابعة والعشرين عاما ولم تنجح العلاقة ،وفي عام ١٩٥٧ ترقَّى إلى أستاذ مشارك وشارك في محاضرات عديدة برعاية وزارة الخارجية إلى الهند وبعد عام عاد إلى مينيسوتا ودخل إلى المستشفى لعلاجه نفسيا وعصبيا ،وفي عام ١٩٥٩ وقع الانفصال القانوني بينه وبين زوجته الثانية التي أنجب منها طفله بول الذي كان يبلغ حينها عامين وفي عام ١٩٥٩ وبعد عام واحد من الانفصال تزوج من كايت دوناهو البالغة من العمر اثنين وعشرين عاما وأنجب منها طفلين مارثا وسارة.

ويدور شعر بيريمان حول حياته الشخصية،وتتنوع تيمات قصائده  بين التحدث عن الرغبة والمرح السَّاخر والهوس والألم العميق النَّاتج عن الحياة عمومًا وعلى وجه الخصوص حياته الخاصة لما لاقاه من صدمات منذ أن كان طفلًا.

أمَّا عن عمله الشعري الذي منحه مكانة شعرية متفردة كأحد أهم الشعراء الأمريكيين في القرن العشرين فهو ”أغاني الحلم” Dream Songs الذي أنجزه في ثلاثة عشر عامًا على جزءين.

الجزء الأول عنوانه ”أغاني الأحلام ٧٧” The Dream Songs 77 عام ١٩٦٤ والجزء الثاني عنوانه ”لعبته،وحلمه،وراحته” His Toy, His Dream,His Rest’’ عام ١٩٦٩ وحصل الجزء الأول على جائزة البوليتزر كما ذكرت من قبل والجزء الثاني حصل على جائزتيْ الكتاب الوطني وبولينجن.

الجزءان يحتويان على ٣٨٥ أغنية، وتتكون كل أغنية من ثلاثة أبيات من ستة أسطر وتُعد هذه الأغنيات سردًا لشخصيةهنري Henry الذي يتحدث عن نفسه بالضمير الأول والثاني والثالث وأحيانا يلتقي بصديقٍ مجهولِ الاسمِ يقدم له نصائح غير مفيدة ومضحكة أحيانًا وعلى الرغم من أن بيرميان أكَّد  أن هنري ليس هو نفسه ، بل رجل أبيض أمريكي متوسط العمر تعرَّض إلى خسارة فادحة  فإن القصائد عكست أفكار بيريمان الخاصة وهواجسه ومخاوفه وآلامه ونظرته التشاؤمية إلى الحياة ولكن بطريقةٍ مُضحكةٍ .

تعبر هذه الأغنيات عن حياة بيريمان المتعبة بأسلوب شعري فريد من نوعه ولكنه مكثف ومؤثر.

يهتم شعر چون بيريمان في المقام الأول بالذات الإنسانية ومدى استجابتها للتحولات الاجتماعية والسياسية والجنسية والعنصريةوالتكنولوچية السريعة التي تحدث في القرن العشرين وأثرها على نفس وروح الفرد والجماعة في الوقت نفسه،فكان يجد مصدر إلهامه في  الجرائد المحلية كما كان يجدها في شعر الشاعر الإنجليزي چون ميلتون John Milton (١٦٠٨-١٦٧٤) والشاعر الإنجليزي جيرارد مانلي هوبكنز Gerard Manley Hopkins (١٨٤٤-١٨٨٩).

فعلى عكس التصور الشائع أن چون بيريمان كان يكتب  قصائد غريبة تشبه الحلم ومجردة ومقصورة على فئة معينة وهو في حالة سُكر ، بل كان على وعي تام بذاته ونفَّذ هذه القصائد بحرفية كاملة غير متأثرٍ بسُكره  فاستخدم مجموعة متنوعة من الأساليب البلاغية وكان يتحول بسهولة من القصائد الغنائية إلى النثرية.

وبالنسبة إلى بيريمان لم يكن الشعر أقل من رسالة أو مَهمَّة أو أسلوب حياة وعلى الرغم من رغبته في الشهرة  فإنَّه أوضح عدم أهميتها بالنسبة إليه عندما قال:”إن الشىء المهم هو أن يكون عملك شيئًا لا يستطيع أحدٌ غيرك أن يفعله ” ونتيجة لهذا كان يؤثر العمل والكتابة عن  إقامة حوارات ومقابلات مع الصحفيين فقال:” أنا أدرِّس وأكتب، ولا أقلد أحدًا”،ولكن عندما فعلها وأجرى  القليل من المحاورات كانت  النتائج عظيمة  فجمع كتابا باسم ” محادثات مع بيريمان” Conversations with Berryman وهذا الكتاب يحتوي  مقابلات رسمية ورئيسة  وملفات شخصية عنه وحاول القائمون على المقابلات أن يكشفوا عن بيريمان ،حيث كان يحاول بيريمان ومحاوريه البحث عن القيم في الشعر في عالم ساقط.

كما يمكن اعتبار ديوان ”أغنيات الحلم” بمكانة قصيدة طويلة أي أن هناك تقليدا أمريكيا لهذا النوع من الشعر ويعود إلى الشَّاعر الأمريكي الشهير ”والت ويتمان” Walt Whitman (١٨١٩-١٨٩٢) في ديوانه ”أوراق العشب”Leaves of Grass  الذي على الرغم من أنه نشره لأول مرة في عام ١٨٥٥،  فإن ويتمان قضى معظم حياته المهنية في كتابة وإعادة كتابة وتوسيع ديوانه “أوراق العشب” حتى وفاته في عام١٨٩٢و أنتج ست أو تسع طبعات من “أوراق العشب”،كانت الطبعة الأولى عبارة عن كتاب صغير يضم اثنتي عشرة قصيدة، وكانت الطبعة الأخيرة عبارة عن مجموعة تضم أكثر من ٤٠٠ قصيدة.

وجد بيريمان هذا النوع من الشعر مجالًا واسعًا ومنفتحًا بأن يسرد فيه حياته  بآلامها وإخفاقاتها وهواجسها ومخاوفها من دون قيود أو شكل معقد يحكم ما يكتبه ويسرده .

كان چون بيريمان مرتبطًا ارتباطُا وثيقًا بالشاعر الأمريكي روبرت لويل Robert Lowell (١٩١٧-١٩٧٧)وبمدرسة الشعر الاعترافيConfessional Poetry ومثل غيره من شعراء الشعر الاعترافي،يعتبر شعره سيرة ذاتية في المقام الأول ،يلامس مخاوف الشاعر ومشاعره المختلفة  محاولًا رفع المشاعر الشخصية إلى مقام الفن الرفيع ولم يكن بيريمان شاعرا اعترافيًا عاديًّا بل كان عمله  سيرياليًّا ،معقدا لدرجةالغموض ومضحكا في بعض الأحيان.رفض بيريمان بوضوح انتماءه إلى مدرسة الشعر الاعترافي وعندما سأله أحد المراسلين عن رد فعله  تجاه وصفه كشاعر اعترافي قال:” أشعر بالغضبٍ والازدراء لوصفي شاعرا اعترافيا ”.

الغريب في تلك القصة الغريبة – قصة حياة چون بيريمان-أنه كتب قصيدة باسم ”أغنية الحلم ١٧٢”يرثي فيها الشاعرة الأمريكية الشهيرة سيلڤيا بلاثSylvia Plath (١٩٣٢-١٩٦٣) التي سبق أن كتبت عنها وترجمت لها قصائد في كتابي ”ثقب المفتاح لا يرى:عشرون شاعرةأمريكية حائزات على جائزتيْ نوبل وبوليتزر”  بيت الحكمة. القاهرة ٢٠٢٤ التي انتحرت بعد خيانات زوجها الشاعر الإنجليزي تيد هيوز المتعددة ،حيث  وضعت رأسها  في فرن بمطبخ منزلها ،وذلك في عام ١٩٦٣ وقد قام چون بيريمان بالفعل نفسه وانتحر ملقيًا نفسه من جسر واشنطن أفينيو في  مينابوليس إلى الضفة الغربية لنهر المسيسيبي في عام ١٩٧٢ أي بعد تسعة أعوام من انتحار سيلفيا بلاث ، والملاحظة التي ستثير التعجب والاندهاش  لكثير من الناس هو أن معظم الشعراء الذين ينتمون إلى مدرسة الشعر الاعترافي ينتحرون،ومثال على ذلك الشاعرات الأمريكيات:آن سيكستون وسارة تيسيديل وسيلفيا بلاث وها هو  چون بيريمان يضاف إلى القائمة.

ما هذا الارتباط الغريب بين الشعر الاعترافي والانتحار؟ ما سره؟ هل الكتابة لا تشفي من الجرح إلى هذه الدرجة أم التحدث عن الآلام والأوجاع الشخصية الذاتية تثيرها دائما وتجعل صاحبها في حال من التوهج المؤلم والتذكر الزائد لكل التفاصيل الحياتية المؤلمة التي تحدث لهم/ن؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها ،والإجابة عنها تستحق دراسة نفسية أكثر منها شعرية لحياة هؤلاء الشعراء الذي لم تنقذهم/ن كتاباتهم/ن الشعرية بل ربما زاد من توهج الألم لديهم /ن ،وأدى بهم/ن إلى الانتحار.

وفي حوارٍ مع بيتر إيه ستيت Peter A.Stittفي مجلة ذا باريس ريفيو The Paris Review سأله المحاور :لقد جاءت إليك الشهرة متأخرة بالمقارنة مع كُتَّاب آخرين مثل روبرت لويل ودبلومور شوارتز.ما تأثير الشهرة على الشاعر ؟هل يمكن أن يؤدي هذا النوع من النجاح إلى إفساد الكاتب؟فقال بيريمان:لا أعتقد أن هناك تعميمات على الإطلاق ،فإذا حصل الكاتب على شهرة مبكرة ،فيجب أن يصبح عمله معروفا مبكرا وإذا لم يحدث ذلك، فإنه يشعر بالإهمال ،فنحن نفترض أن جميع الكُتَّاب الشباب يبالغون في تقدير أعمالهم ومن المستحيل ألا يكون كذلك ،أعني إذا عرفت أنك تكتب كلاما غير مفيد لن تكتب ،عليك أن تؤمن بما تكتب -أي كل يوم يجب أن يكون اليوم الجديد الذي قد يكون فيه القصيدة الجديدة هي الأفضل .حسنًا، تدعم الشهرة هذا الشعور  وتعطي الثقة بالنفس وتعطي إحساسًا بوجود جمهور معاصر ،وما إلى ذلك،ولكن من ناحية أخرى ما لم تدم يمكن أن تسبب مشكلات ونادرًا ما تستمر.

كما سأل المحاور بيتر أيه ستيت بيريمان :” ما ردة فعلك على تعليقات مثل:”إذا لم يكن بيريمان أفضل شاعر أمريكي على قيد الحياة،فإنه بالتأكيد يأتي في المركز الثاني بعد لويل”؟رد عليه بيريمان قائلا:”حسنا،لا أدري فأنا لا أشعر بأي انفعال أو إثارة هنا،وحسابي المصرفي لا يزال على حاله، ونظرتي إلى عملي لا تتغير  وبشكل عام ، يمكنني القول أن كل شىء كما كان”.

كما سأل المحاور بيريمان :” يبدو أنك إلى جانب روبرت فروست وبعض الكُتَّاب الأمريكيين الآخرين تم تقديرك في إنجلترا قبل أمريكا؟فأجاب بيريمان قائلا:”هذا صحيح بشكل أكبر في حالة فروست .ستيفين كرين مثال آخر”.

يبدو من هذا الحوار أن جون بيريمان شخص واثق من ذاته ومن قدراته وإمكاناته كما لديه نظرة واقعية تجاه الحياة عموما والعمل على وجه الخصوص كما أن لديه سعة صدر في تقبل الإخفاقات والمحاولات الفاشلة للوصول ،فيبدو أن صدمة انتحار أبيه منذ طفولته أعطته مناعة ضد الصدمات والفشل والمحاولات التي تؤدي إلى اللا شىء وبرغم الأوجاع تلك التي واجهها منذ طفولته  فإنه نجح في خلق حالة شعرية متفردة لم يسبقه فيها إلا الشاعر والت ويتمان وهذا تحدٍّ كبير لشاعر ذاق الوجع ولم ينتظر من الحياة الكثير. چون بيريمان ليس فقط حالةشعرية تستحق الاحتفاء بل أيضا حالة إنسانية تستحق الدراسة.

*كاتبة ومترجمة

مدرس بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة المنصورة

‏مقالات ذات صلة

Back to top button